الإخلاص لله

بسم الله الرحمن الرحيم

       الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد بن عبدالله المبعوث رحمة للعالمين.

أما بعد ،،،

          فالإسلام ينظر بعناية فائقة إلى أعمال الناس من نيات الإسلام لا يهتم بالصدقة إلا إذا خلصت من الرياء وتكون لله وحده مصداقاً لقوله تعالى في سورة الإنسان الآية (9):

          (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا).

          وكذلك في سورة الليل الآية (18 : 21):

          (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21).

          ولتصحيح إتجاهات القلب قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:

          (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

بمعنى:  إن ألوف المسافرين من مكة إلى المدينة ، لأغراض شتى فمن ترك مكة إلى المدينة فراراً بدينه من الفتن ، وإقامة الدولة الجديدة فهو المهاجر.

          إن إصلاح النية وإخلاص القلب لرب العالمين يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوي فيجعلانه عبادة مُتقبلة.

          وإن خبث النية يهبط بالطاعات فيقلبها معاصي.

مثال:  فالرجل يواقع امرأته ، نيته أن يحفظ عفافه ويصون دينه ، له في ذلك أجر مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم:  (وفي بضع أحدكم صدقة).    رواه مسلم

الحديث الثاني:  

        عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال له:  (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله ، إلا أُجرت عليها ، حتى ما تجعله فى فم امرأتك).    رواه البخاري

          وقال صلى الله عليه وسلم:  (ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة ، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة). رواه أحمد

          إن الإنسان مادام قد أسلم لله وأخلص نيته ، فإن حركاته وسكناته ونومه ويقظته ، تحتسب خطوات إلى مرضات الله ، وقد يعجز عن عمل الخير الذى يتمنى أن يعمله ، لقلة ماله أو ضعف صحته ، ولكن الله المطلع على ما فى النفوس يرفع الحريص على الإصلاح إلى مراتب المصلحين ، مثل ما حدث في غزوة العسرة ، أن تقدم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجال يريدون أن يقاتلوا الكفار معه ، وأن يجودوا بأنفسهم في سبيل الله ، غير أن الرسول لم يستطع تجنيدهم ، فعادوا وفي حلوقهم غُصة وفيهم نزل قول الله تعالى:

          (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ).  سورة التوبة الآية (92)

          نزلت في بني مُقرن من مزنية ، وكانوا سبعة نفر إخوة كلهم صحبوا النبى – صلى الله عليه وسلم – وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم.

          وكانوا أهل حاجة ، وفي حديث أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:  (إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً ولا سرتم سيراً إلا وهم معكم).  قالوا: وهم بالمدينة؟  قال:  (نعم حبسهم العذر).                   (رواه البخاري)

          لأن هؤلاء الناس أرادوا الغزو مع رسول الله ولم يجد الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما يحملهم عليه ، رجعوا أو أنصرفوا وأعينهم تسيل دمعاً من شدة الحزن لأنهم لم يجدوا ما ينفقونه لغزوهم.

          وقد نوه النبى – صلى الله عليه وسلم – بإيمان أولئك القوم وإخلاصهم فقال للجيش السائر هذا الحديث.

          إن النية الصادقة سجلت لهم ثواب المجاهدين.

          وهناك نية مزدوجة تنضم إلى العمل الصالح فيتحول بها إلى معصية تستجلب الويل.  مصداقاً لقوله تعالى فى سورة الماعون الآية (4 : 7):

          (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7).

          وهذا وعيد شديد لهم لماذا؟

          إذ الويل واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار وقيوحهم وهو أشد العذاب إذ كانوا يغمسون فيه أو يطعمون ويشربون منه.

          وأنهم غافلون عن صلاتهم لا يذكرونها فكثيراً ما تفوتهم ويخرج وقتها وأغلب حالهم أنهم لا يصلونها إلا عند قرب خروج وقتها.

(2)وصف آخر:  أنهم (يراءون) بصلاتهم وبكل أعمالهم.

(3)وصف آخر:  فإذا استعارهم مؤمن ماعوناً للحاجة به لا يعيرون فأساً ولا قدراً ولا أية آنية (كأبرة والدلو).

          وفي الآية زجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة الحقيرة.

          إن الصلاة مع الرياء ، أمست جريمة ، بعد ما فقدت روح الإخلاص ، كذلك الزكاة إنها إن صدرت عن قلب يسخو لله ويدخر عنده قبلت وإلا فهي عمل باطل.

          ولذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذى رواه الحاكم:  (أخلص دينك يكفيك العمل القليل).

          ونرى أن تفاوت الأجور (الحسنات) من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى

 أضعاف كثيرة يعود إلى سر الإخلاص الموجود داخل الصدور وهو ما لا يطلع عليه إلا عالم الغيب والشهادة.

          فعلى قدر نقاء السريرة ، وسعة النفع تكتب الأضعاف من الحسنات.

          فمن ربط حياته بهذه الحقائق ، فقد استراح في معاشه واستعد لمعاده فلا يضيره ما فقده ، ولا يحزنه ما قدم.

الدليل:   قول النبى – صلى الله عليه وسلم:  (من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لاشريك له ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، فارقها والله عنه راض).                 رواه ابن ماجه

          وهذا مصداق قوله تعالى في سورة البينة الآية (5):

          (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

حنفاء:   وهم مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، مستقيمين على دين إبراهيم ، دين الحنفية السمحة الذى جاء به خاتم المرسلين ، وامروا بأن يؤدوا الصلاة على الوجه الأكمل وهو دين الملة المستقيمة.

          وهذا هو دين الملة القيمة المستقيمة المعتدلة الموصلة للعبد إلى رضا الرب وجنات الخلد بعد إنجائه من العذاب والغضب.

          وما امروا في التوراة والإنجيل إلا بأن يعبدوا الله وحده مخلصين العبادة لله جل وعلا ، ولكنهم حرفوا وبدلوا ، فعبدوا أحبارهم ورهبانهم كما قال الله تعالى: سورة التوبة الآية(31)

          (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا).

الأحبار:  جمع حبر وهو الذى يحسن القول وينظمه ويتقنه.

الرهبان:  جمع راهب وهو مأخوذ من الرهبة ، وهو الذى حمله خوف الله تعالى على أن يخلص له النية دون الناس ويجعل زمانه له وعمله معه وأنسه به.

          روى الإمام أحمد والترمذي عن عدى بن حاتم الطائي – رضي الله عنه:  أنه لما بلغته دعوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأُسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فدخل على رسول الله وفي عنقه صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً).  قال عدى: إنهم لم يعبدوهم.  فقال: (بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فأتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم).

          وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:  (ياعدى ما نقول؟ أيضرك أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟ أيضرك أن يقال:  لا إله إلا الله.  فهل تعلم إلهاً غير الله؟).  ثم دعاه إلى الإسلام ، فأسلم وشهد شهادة الحق ، قال عدى:  فلقد رأيت وجهه أستبشر ، ثم قال:  (إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون) وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبدالله بن عباس وغيرهما.

          وقد أعلن الإسلام كراهيته العنيفة للرياء في الأعمال الصالحة واعتبره شركاً بالله رب العالمين ، وعن ابن عباس:  قال رجل:  يارسول الله إني أقف الموقف أريد وجه الله وأريد أن يُرى موطني ، فلم يرد عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى نزلت:

          (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).

          من كان يريد ثواب الله وجزاءه فليعمل عمل موافقاً لشرع الله ولا يراد بهذا العمل إلا وجه الله وحده لا شريك له ، وهذان ركنا العمل المتقبل ، إن يكون خالصاً لله – صواباً على شريعة رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

          وروى الإمام أحمد عن شداد بن أوس – رضي الله عنه – أنه بكى ، فقيل له:  ما يبكيك؟ قال شئ سمعته من رسول الله – فأبكاني.  سمعته يقول:  (أتخوف على أمتي الشرك

والشهوة الخفية).

          قلت:  (يارسول الله!  أتشرك أمتك من بعدك؟ قال:  نعم أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ، ولكن يراءون بأعمالهم ، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه)    أخرجه أحمد وابن ماجه.

          وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال:  قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:  (من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك إستهانة إستهان بها ربه عز وجل).          رواه الحافظ أبو يعلي الموصلي.

          المجتمع العام فمصائبه من الفضلاء المنافقين أنكى من مصائبه التى ينزلها به معتادو الإجرام من الصعاليك.   كما قال الشيخ محمد الغزالي.

          وعلى الموظف وهو فى عمله أن يعتد ما يكتبه وما يكدُ فيه عقله ، ويتعب فيه يده ، عملاً يقصد به مصلحة البلاد ورضا الله.

          إن الدابة قد تكدح طوال النهار نظير طعامها ، والإنسان قد يهبط بقيمة جهده إلى مستوى الحيوان ، فيكون عمله لقاء راتبه فحسب.

          ولكن الرجل العاقل يغالى بتفكيره ونشاطه ، فيجعلهما لشئ أجل ، ومن المؤسف أن هناك جمهوراً من الموظفين لا يفقهون إلا منطق المال والدرجة والترقية.

الدليل:   حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيث قال:

          (إذا كان آخر الزمان صارت أمتى ثلاث فرق ، فرقة يعبدون الله خالصاً ، وفرقة يعبدون الله رياء ، وفرقة يعبدون الله ليستأكلوا به الناس ، فإذا جمعهم الله يوم القيامة ، قال للذى يستأكل الناس:  بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟  فيقول:  وعزتك وجلالك أستأكل بها الناس.  قال:  لم ينفعك ما جمعت انطلقوا به إلى النار).

          ثم يقول للذى كان يعبد رياء.  بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟  قال:  بعزتك وجلالك رياء الناس.  قال:  لم يصعد إلى منه شئ انطلقوا به إلى النار.

          ثم يقول للذى كان يعبده خالصاً.  بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟  قال:  بعزتك وجلالك أنت أعلم بذلك من أردت به؟  أردت به ذكرك ووجهك.  قال:  صدق عبدي ، انطلقوا به إلى الجنة.                       (رواه الطبراني)

          وقد أوجب الإسلام على الأستاذ والطالب جميعاً أن يتجردا للعلم ، وأن ينظر قبل كل شئ إلى المثل العالية والمصلحة العامة ، وإنما يسخط الله عز وجل على ذوى الأغراض والمرائين وغيرهم من عُباد المال والجاه ، لأن المفروض في المسلم أن يضحي بكل شئ في سبيل الله.

          وقد كان سحرة فرعون آية في اليقين الصحيح والإخلاص العالي عندما رفضوا الإغراء وحقروا الإرهاب وداسوا حب المال والجاة وقالوا لفرعون الجبار:

          (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73).

بمعنى:  أي أفعل ما شئت إنما لك تسلط في هذه الدار (دار الدنيا وهي دار الزوال ، ونحن قد رغبنا في دار القرار ، ونحن ءامنا بربنا ليغفر لنا ما كان منا من الآثام ، خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر والله خير لنا منك وأدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا).

          وفرق كبير بين هؤلاء الذين يستهينون بالدنيا في سبيل الله ، وبين الذين يسخرون الدين نفسه في التقرب من كبير ، أو الإستحواذ على عرض حقير.

 

(والحمدلله رب العالمين)

 

اترك تعليقاً