قصة داود عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

       الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد،،،

          فلقد ورد اسم (داود) عليه السلام فى القرآن الكريم فى ستة عشر موضعاً ، فى السور الآتية:  (البقرة ، النسآء ، المائدة ، الأنعام ، الإسراء ، الأنبياء ، النمل ، سبأ ، وسورة ص).

نسب داود عليه السلام:

(1)     هو (داود بن غيشا بن عويد من أولاد يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام) ، وقد أتفق أهل التوراة وأهل الإنجيل على أنه من سبط يهوذا.

(2)     كان جميل أزرق العينين – متوسط الطول – قليل الشعر – قوى جداً طاهر القلب ونقى.

(3)     ولد داود بقرية ببيت لحم قبل ميلاد المسيح عليه السلام بنحو 1090 عام وكان من أهل بيت المقدس.

(4)     كان فى شبابه يرعى الغنم لأبيه ثم جًمع له بين النبوة والملك.

(5)     وكان معروفاً بالشجاعة والإقدام ومشهور برمى المقلاع وهو سلاح يشبه النبل.

(6)     وله إخوة 12 ذكراً وهو رقم 13 وكان له 7 إخوة فى الحرب مع طالوت.  وقال له أبوه: نصيبك فى الجهاد أن تحمل الطعام لإخوتك وأن تكون سفيراً بينى وبينهم.

          فلما نهض فى طريقه مر بحجر فناداه:  ياداود خُذنى فبى تقتل جالوت ، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذهم وجعلهم فى مخلاته وسار إلى حيث يقف الجيش.

          فخرج جالوت يطلب مبارزةً فأصاب الناس الجبن والضعف.

          فقال طالوت:  من يبرز إليه ويقتله فأنا أُزوجه أبنتى وأحكمهُ فى مالى.

          فقال داود عليه السلام:  (أنا أبرز إليه وأقتله).

          فرده طالوت (لماذا؟)  لصغر سنة وقصره ، ثم نادى ثانية وثالثة فخرج داود.

          فقال طالوت:  (هل جربت نفسك بشئ؟).

          قال داود:  نعم.   قال طالوت:  بماذا؟

          قال داود:  وقع ذئب فى غنمى فضربته ثم أخذت رأسه فقطعته من جسده.

          قال طالوت:  (الذئبُ ضعيف هل جربت نفسك فى غيره؟).

          قال داود:  نعم.  دخل أسد فى غنمى فضربته ثم أخذت بلحيته فشققتها – أفترى جالوت أشد من الأسد؟.

          قال طالوت:  لا …

          فقال طالوت:  فأركب فرسى وخذ سلاحى – ففعل – فلما مشى قليلاً رجع –  قال الناس:  جُبن الفتى.

          فقال داود:  إن الله إن لم يقتله لى ويُعنى عليه لم ينفعنى هذا الفرس ولا هذا السلاح ولكن أحب أن أقاتله على عادتى ، وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه وخرج إلى جالوت.

          فقال جالوت:  أنت يا فتى تخرج إلىَ.   قال داود:  نعم.

          فقال جالوت:  هكذا كما تخرج إلى كلب.   قال داود:  أنت أهون عليَ من الكلب.

          قال جالوت:  لأُطعمن لحمك اليوم للطير والسباع ، ثم تدانيا.  وقصد جالوت أن يأخذ داود بيده إستخفافاً به ، فأدخل داود يده إلى الحجارة فرُوى أنها التأمت فصارت حجراً واحداً فأخذه فوضعه فى المقلاع وسمى الله وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله ، وجز رأسه وحمله فى مخلاته.

          وأختلط الناس وحمل أصحاب طالوت فكانت الهزيمة مصداقاً لقول الله تعالى فى سورة البقرة الآية (251):

          (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء).

          أحب بنو إسرائيل داود حباً شديداً وطمعوا فى أن يكون ملك عليهم بدلاً من طالوت ، ولكنه أبى فزوجه طالوت ابنته ميكال.

          وبعد موت طالوت صارالمُلكُ لداود – ويقول الله تعالى:

          (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء).

          وكان عدد جيش طالوت ثلثمائة وأربعة عشر مقاتلاً لا غير لقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه لأهل بدر:  (إنكم على عدة اصحاب طالوت ، وكان ثلثمائة وأربعة عشر رجلاً) فهزم الله جيش الباطل على كثرته ونصر جيش الحق على قلته.  وهنا ظهر كوكب داود عليه السلام فى الأفق بقتله رأس الشر جالوت – فمن الله عليه بالنبوة والملك بعد موت كل من النبى شمويل والملك طالوت.

          الحكمة: النبوة والعلم بكتاب الله تعالى.

          وعلمهُ:  صنعة الدروع ، وعلمهُ ما يشآء من العلم النافع الذى أفاضه عليه.

          فجمع اللهُ تعالى على يده الملك والنبوة ما اجتمعت منذ يوشع بن نون من 460 سنة فى بنى إسرائيل..  وجعله نبياً مرسلاً بعد أن بلغ الأربعين.

          فصار داود ملكاً نبياً أو ملكاً رسولاً فأجتمعت فيه الملكُ والنبوة حكم بالعدل والله تعالى أعطاه فصل الخطاب (البيان الفاصل بين الحق والباطل).

بمعنى:  علمه كيف يكون الحكم الحقيقى بما أنزل الله.  (وقد ذُكرت قصته مجملة ومفصلة فى سورة سبأ – ص – الأنبياء – والبقرة وغيرها من السور).

          إن داود ومن قبله من الأنبياء ومن بعدهم حتى عيسى الكل كانوا يحكموا بالتوراة التى أُنزلت على سيدنا موسى عليه السلام.

          فالتوراة هو كتاب بنى إسرائيل الأصلى ، ولكن الله أعطى داود الزبور (الكتاب الذى يُقرأ ويُتلى ويعاد.  وكان عبارة عن مواعظ وإرشادات وتزهيد فى الدنيا وترغيب فى الآخرة).

الزبور كما قال القرطبى:

          كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حُكم من الأحكام وإنما هى حكم ومواعظ.

مميزات سيدنا داود عليه السلام:

الميزة الأولى:  إن داود كان محبوباً فى بنى إسرائيل ونادراً ما تجد إنسان يجتمع فيه الورع – التقوى – النبوة والملك وتحبه الرعية كلها – فأحبوه وهابوه وأطاعوه.  مصداقاً لقوله تعالى فى سورة (ص) الآية (20):

(وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ).

          الله قوى ملكه وثبته بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود وأعطاه النبوة والفهم والإصابة فى الأمور.

          وفصل الخطاب:  الكلام البين الذى يفهمه من يُخاطب به – الحكم فى القضاء بالعدل البيان الفاصل بين الحق والباطل.

          قال المفسرون:  كان مُلك داود قوياً عزيزاً ، وكان يحكم بالحكمة والحزم معاً ، وقد ءاتاه الله الحكمة فوضع كل شئ فى موضعه وكان حكمه وحكم ولده سليمان هو الفترة الذهبية فى تاريخ اليهود كله ….

          وقد أستمر ملكه أربعين سنة ثم جآء بعده سليمان فحكم أربعين سنة أيضاً.

الميزة الثانية:  كان داود من أجمل الناس صوتاً – لم يُخلق إنسان أجمل صوتاً من داود مصداقاً للحديث الذى رواه أحمد فى مسنده أن النبى – صلى الله عليه وسلم – سمع  أبى موسى الأشعرى يتلوا القرآن قال لأبى موسى:  (لقد أُتيت مزماراً من مزامير آل داود) البخارى.

بمعنىالمزمار:  الألة التى ينفخ فيها فتحدث صوتاً مرتفعاً ، وهذا كناية عن حسن الصوت وجماله وقوته.  كأن الله جعل صوتك مثل صوت داود عليه السلام.

(2)     وكان من جمال صوته أن بنى إسرائيل يقولون إن الأسماك فى البحر كانت إذا سمعت صوت داود أقبلت عليه ومن شآء أن يصطاد أصطاد.

(3)     كما أن الطيور كانت إذا سمعت صوت داود جآءت من مشرق الدنيا ومغربها ووقفت فوق رأس داود تسمع وترتل معه.

(4)     وكان من حسن صوته ما يتزاحم الوحوش من الجبال عليه.

(5)     وكان المآء الجارى ينقطع عن الجرى وقوفاً لصوته.

(6)     والناس إذا وقف داود يقرأ الزبور فكان على رُءُوسهم الطير وكان من حسن صوته – وترتيله – وحسن تأثيره يحصل فى المجلس الواحد يموت كثيرون – فبعد إنتهاء الموعظة يحمل الناس جنازات إلى القبور.

          وبنى إسرائيل يعلمون وقت خروجه للموعظة فكانوا يقفون فى ميادين واسعة فإذا بدأ داود فى قراءة الزبور بالصوت الجميل ثم بدأ تسبيح الله يسمعُ الناس كلهم الجبال من حولهم والطير من فوقهم يسبحون معه – مصداقاً لقوله تعالى فى سورة سبأ الآية (10):

(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ).

          وفى سورة ص الآية (18) حيث قال الله تعالى:

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ).

          فإذا تلى داود الزبور بالصوت الجميل يسمعون الجبال ترد معه بالتسبيح وكذلك الطيور ترد معه التسبيح.

          وكان داود عليه السلام يفهم تسبيح الجبال ويقول الله تعالى:

          (وإن من شئ إلا يسبحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).

(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ).

الشرح:  ولقد أعطى الله تعالى داود فضلاً كثيراً عن غيره فى تسع أقوال ..

(1)            الفصل الأول:  هو النبوة.

(2)            الفصل الثانى:  الزبور كتاب سيدنا داود.

(3)            الفصل الثالث:  العلم (ولقد ءاتينا داوُد وسليمان علماً).

(4)            الفصل الرابع:  القوة (واذكر عبدنا داوُد ذا الأيد).

(5)            الفصل الخامس:  تسخير الجبال والطير معه (ياجبالُ أوبى معه والطير).

(6)            الفصل السادس:  التوبة (فغفرنا لهُ ذلك).

(7)            الفصل السابع:  الحكم بالعدل (ياداوُد إنا جعلناك خليفة فى الأرض).

(8)            الفصل الثامن:  الآنة الحديد (وآلنا لهُ الحديد).

(9)            الفصل التاسع:  الصوت الحسن ، وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه.

الميزة الثالثة:  (وألنا لهُ الحديد)

          والحديد له درجة حرارة معينة لكي يلين ويصير كالمآء – عندما يمسك الحديد يجده فى يديه كالعجينة تماماً قال ابن عباس:  (صار عنده كالشمع).

          قال الحسن البصرى:  (صار عنده كالعجين – فكان يعمله من غير نار).

          رأى ثالث:  (السدى:  كان الحديد فى يده كالطين المبلول).

          …  كان الحديد فى يده كالطين المبلول والعجين والشمع يُصرفه كيف يشآء من غير إدخال نار ولا ضرب بمطرقة.

ما الذى دفعه للعمل وهو الملك الذى يحكم الرعية؟

          وكان داود يتنكر ويخرج ويسأل عن نفسه وسيرته فى بنى إسرائيل فى خفاء فلقى ملكاً وظنه داود إنساناً.  فقال داود له:  ما قولك فى هذا الملك داود؟  قال الملك:  (نعم العبد لولا خلة فيه).  خلة:  صفة.

          قال داود: (وما هى؟).  قال الملك:  (يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله).

          فرجع فدعا الله أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه – فعلمه الله صنعة لبوس – فالآن له الحديد – فصنع الدروع – فكان يصنع الدرع فى يوم أو بعض يوم – أو فى بعض ليل – يساوى ألف درهم.

          (ذكره ابن عطيه فى تفسيره) حتى أدخر منها كثيراً وتوسعت معيشة منزله ويتصدق على الفقراء والمساكين وكان ينفق ثلث المال على مصالح الناس – مصداقاً لقوله تعالى فى سورة الأنبياء الآية (80):

(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ).

          ولما الإنسان يعمل بيده يحصل له التواضع فى نفسه ويستغنى عن غيره…

          وفى الصحيح عن النبى – صلى الله عليه وسلم – قال:  (إن خير ما أكل المرءُ من عمل يده ، وإن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده).

          وصنع نوع من الدروع لم يكن موجود – كانت الدروع قبل داود صفائح ثقيلة ، وبدأ يصنع دروع من حلقات صغيرة وخفيفة جداً.

مصداقاً لقوله تعالى فى سورة سبأ الآية (11):

(أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

          سابغات:  دروع تامات واسعات يُغطى كل ما هو عليه..

بمعــنى:  لاتجعلها غليظة ولا تجعلها رقيقة فتنكسر وتجرح الناس.

الميزة الرابعة:  كان دواد عليه السلام من أكثر الناس عبادة ، كان داود يصوم يوم ويفطر يوم كما جآء فى الحديث الصحيح فى الصحيحين:

          (أحبُ الصلاة إلى الله صلاة داود وأحبُ الصيام إلى الله صيام داود وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لقى) =  إذا قابل العدو.

          كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سُدسه.

          كان يعطى نفسه حقها من الراحة ويعطى ربه حقه فى العبادة.

          ويقول الله تعالى فى سورة (ص) من الآية (21 : 25):

(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ(21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ(22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ(23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ(24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ)(25).

هناك حكاية باطلة ليست صحيحة:

          عندما دخل داود محرابه وأخذ الزبور ومنع من الدخول عليه ، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جآء طائر كأحسن ما يكون من الطير فجعل يُدرج بين يديه – فهم أن يتناوله بيده – حتى دفع فى كوة المحراب فدنا منه ليأخذه فطار ، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل فلما رأته غطت جسدها بشعرها – فوقعت فى قلبه.

          قال ابن عباس:  وكان زوجها غازياً فى سبيل الله وهو أوريا بن حنان ، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها فى مقدمة الجيش فقدمه فيهم فقتل ، فلما أنقضت عدتها خطبها داود.

          لقد وقع بعض المفسرين فى خطأ فاحش حين نقلوا بعض الأقوال الواهية لأنه من القصص الإسرائيلية التى تتنافى مع العقيدة الإسلامية فى (عصمة الأنبياء) وهذ القصة من هذه الأباطيل المدسوسة.  وما قيل إنه أرسل أوريا مراراً إلى الحرب وأمره أن يتقدم حتى قتل فتزوجها داود فهذا (فزور وإفتراء).

          ولذلك قال على – رضى الله عنه:

          (من حدث بحديث داود على ما يرويه القًصاص جلدته مائة وستين جلدة) وهو حد الفرية على الانبياء.

          وعندما دخلوا عليه من أعلى السور فخاف وأرتعد لماذا فزع داود منهم أنهم دخلوا عليه بغير إذن ودخلوا من غير الباب فى وقت كان قد خصصه للعبادة.

          فقالا له:  لا تخف منا نحن مختصمان تعدى بعضنا على بعض فأحكم بيننا بالعدل ولا تظلم فى الحكم وأرشدنا إلى الطريق الحق الواضح – (إن هذا أخى لهُ تسعُ وتسعُون نعجة ولى نعجة واحدة)  هذه بداية قصة الخصمين.

          قال أحدهما:  إن صاحبى هذا يملك تسعة وتسعين نعجة – وأملك أنا نعجة واحدة قال بعض المفسرين:  وقد يكنى بها عن المرأة فيكون الغرض أن عنده تسعاً وتسعين امرأة وعندى امرأة واحدة (فقال أكفلينها) ملكينها وجعلها تحت كفالتى (وعزنى فى الخطاب) أى غلبنى فى الخصومة وشدد عليَ فى القول وأغلظ (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) قال له داود لقد ظلمك بهذا الطلب حين أراد أنتزاع نعجتك منك ليكمل ما عنده إلى مائة.

          والعرب تكنى عن المرأة بالنعجة والبقرة والناقة لما هى عليه من السكون وضعف الجانب …

          وبسرعة حكم داود وقال:  (وإن كثيراً من الخلطاء ليبعى بعضهم على بعض) أى وإن الكثيرين من الشركاء ليتعدى بعضهم على بعض (إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهُمُ).

          إلا المؤمنين الذين يعملون الصالحات فإنهم لا يبغون وهم قليل.

          والخطأ الذى وقع فيه داود عليه السلام:

          أنه لم يوجه إلى الخصم الآخر حديثاً ،ولم يطلب إليه بياناً ، ولم يسمع له حجة ، ولكنه مضى يحكم – بهذا الحكم السابق.

          ويبدو أنه عند هذه المرحلة أختفى عنه الرجلان:  فقد كانا ملكين جاءا للامتحان! امتحان النبى الملك الذى ولاه الله أمر الناس – ليقضى بينهم بالحق والعدل – وليتبين الحق قبل إصدار الحكم.

          ولكن القاضى عليه ألا يتعجل – وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته.

          وعندما طار الملكان من بين يدى داود وعرجا إلى السماء فعلم عندئذ أنما فتنه ربه فكانت زلة صغيرة (قضى بدون أن يسمع من الخصم الثانى).

          وهنا استغفر داود ربه (وخر راكعاً وأناب) يبكى ويطلب العفو وأناب إلى ربه فى أمره كله.

          وذكر الله تعالى أنه قبل توبته وعفا عنه فقال تعالى:

          (فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى).

          فسامحناه وعفونا عنه ذلك وإن له لقربة وكرامة بعد المغفرة (وحسن مآب) وحسن مرجع فى الآخرة.

          ومن رعاية الله لعبده داود أنبهه عند أول لفتة ورده عند أول اندفاعه – وحذره النهاية البعيدة.

التعقيب:

          هذا كلام تقشعر منه الابدان ، وأعجب لذكره فى كتب التفاسير بهذه الصورة – وآمل أن تُنقى كتب التفاسير من هذا الهُراء وذلك على أيدى إخوة متخصصين فى التفسير 

          والتفسير الصحيح فى نظر العلماء المتخصصين لهذه الآيات:

          أنه فى يوم عبادته دخل عليه خصمان تسورا عليه من السور ولم يدخلا من المدخل المعتاد فارتاع منهما وفزع فزعاً لا يليق بمثله من المؤمنين فضلا عن الأنبياء أصحاب المنزلة الرفيعة – وظن بهما سوءاً – وأنهما جاءا ليقتلاه أو يبغيا به شراً ، ولكن تبين له أن الأمر على خلاف ما ظن ، وأنهما خصمان جاءا يحتكمان فلما قضى بينهما وتبين له أنهما برئيان مما ظنه بهما استغفرربه وخر راكعاً وأناب.

          ومثل الأنبياء فى علو شأنهم وقوة ثقتهم بالله ألا تعلق نفوسهم بمثل هذه الظنون بالأبرياء – ومثل هذ الظن وإن لم يكن ذنباً فى العادة إلا أنه بالنسبة للأنبياء لا يليق بهم وقديماً قيل:  (حسنات الأبرار سيئات المقربين).

          وقال الشيخ أبو شهبة رحمه الله ، فالرجلان خصمان حقيقة وليسا ملكين كما زعموا ، والنعاج على حقيقتها وليس ثمة رموز ولا إشارات وهذا التفسير هو الذى يوافق نظم القرآن ، ويتفق وعصمة الأنبياء.  فالواجب نبذ هذه الخرافات الأباطيل التى هى من صنع بنى إسرائيل.

الثانى:  أنه يحتمل أن يكون ما فعله داود عليه السلام هو نُطقه بالحكم بمجرد سماع كلام الشاكى:  المدعى:  قبل أن يسمع كلام المدعى عليه من غير تثبيت بينة – (الفخر الرازى من يرد معلومات أكثر).

          أما ما قاله البعض اعتماداً على بعض الروايات الإسرائيلية مما ذكرنا – وحذرنا منه – فإنه لا يصح بالنسبة إلى عوام المسلمين وجهلة الفساق.  فما بالك بالأنبياء بل بخواص الأنبياء (فليتدبر هذا من له عقل سليم ودين قوى).

وقد قسم داود وقته إلى ثلاث:

(1)            كان يخصص بعض وقته للتصرف فى شئون الملك والقضاء بين الناس.

(2)            كان يخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيد تسبيحاً لله.

(3)            ويوم يخلو بنسآئه وأشغاله.

وقد قسم داود أوقاته وجعلها متساوية ، ونسى أنه خليفة فى الأرض ، وأن الخلافة تتطلب وقتاً أكبر – فسخر الله له هؤلاء الذين تسورا عليه المحراب.  ولهذا خاطبه الله بقوله فى سورة (ص) الآية (26):

(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).

أنت ياداود لست كأحاد الناس لا يشغله إلا نفسه وأهله ولكنك مسئول عن كل من يُقيم فى مملكتك – أو يدخل فيها من غير أهلها –  داود عليه السلام كان معظمه فى ملازمة المحراب – فرده الله إلى الإعتدال فيه إلى الحد الذى يكفل مصلحته ومصالح الناس.  فمن وُلى أمراً:

فشغل بغيره كان عاصياً أو مقصراً ، حق ولو كان هذا الأمر الذى شُغل به عبادة من العبادات.

وعلى المؤمن ان يوُفق بين مطالب الدين والدنيا وأن يضع نفسه حيث وضعها الله.

(إنا جعلناك خليفة فى الأرض ، ملكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فأحكم بين الناس بالعدل ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) عن طريق الجنة – (إن الذين يضلون عن سبيل الله) الذين يحيدون عن طريق الله ويتركونها (لهم عذابُ شديد) فى النار (بما نسُوا يوم الحساب) أى تركوا الإيمان به أو تركوا العمل فصاروا كالناسين).

وفاة داود عليه السلام:

          عاش داود مائة سنة – وكان يُغلق الأبواب وكان غيُر جداً على نسائه – وكان عنده مائة امرأة.

          واليهود يعتبرون سيدنا داود ملكاً وليس نبياً هو وسيدنا سليمان ولكن الإسلام هو الذى بين لنا أنه ملك ونبى.

          كان يغلق الأبواب على الحريم – ويذهب إلى شأنه فطلت واحدة منهم فوجدت رجلاً فى البيت فنادت الأُخريات والوصيفات ، قالوا:  كيف دخل هذا الرجل ، فأرسلوا إلى داود ليأتى.  فجآء داوُدُ فوجد الرجل بداخل البيت (فى صحن البيت أو الحوش) قال له:  من أدخلك وكيف دخلت ولماذا دخلت ومن أنت؟؟  قال:  أنا من لا يقف أمامه حاجز – أنا الذى لا أهاب الملوك ولا أُمنع من الحجاب.

          قال داودُ:  أنت ملك الموت – قال: نعم.   قال داود:  مرحباً بك ثم صلى وسجد فقبضه عند سُجوده.  بنى إسرائيل علموا بالخبر.

          وكان سيدنا سليمان موجود فاخرجوا الجثة إلى ميدان فسيح جداً وغسلوه وكفنوه ولكن طلعت الشمس والحرارة أشتدت وعرق الناس – فسيدنا سليمان قال للطير:  (أيتها الطير!  إصطفى وظليها).  فجآءت الطير من جميع الجوانب واصطفت وكانت منخفضة فالحرارة اشتدت – فقال لها: (ظللينا من ناحية الشمس وافتحى الباب الآخر لتأتى منها الريح).

          وورث سليمانُ داود فى الملك والنبوة ، وقد أشترك مع داود فى كثير من مواطن القتال ومجالس العلم.

 

(  والحمدلله رب العالمين )

 

اترك تعليقاً