زهرة قريش(آمنة بنت وهب) أُم النبي الكريم .

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على منقذ البشرية وهادى الإنسانية محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه وسلم.

                               أما بعد:                              

فالذى يعرفه المؤرخون عنها أنها عندما خُطبت لعبدالله بن عبدالمطلب (كانت يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسباً وموضعاً) السيرة النبوية كما جمعتهما مجامع القبيلة حيث كان عبدالمطلب سيد بنى هاشم ووهب سيد بنى زهرة يتزاوران على ود ويجتمعان للتشاور كلما أهم (قريشاً) أمر.

نحكى الحكاية من أولها:   كان عبدالمطلب نائماً فى الحجر إذ أتاه آت فقال أحفر زمزم قام عبدالمطلب وأراد أن يحفر البئر وليس له من الولد سوى ابنه الحارث  وقد وقفت قريش فى وجهه ، فنذر يومئذ: لئن أتاه الله عشرة أولاد ثم يبلغوا معه بحيث يدافعون عنه ، ليذبحن أحدهم عند الكعبة.

      وكان (عبدالله) أصغرهم جميعاً ، وتتابعت الأخبار تصف كيف أراد عبدالمطلب ذبح أبنه عبدالله لكى يوفى بنذره ولكن القوم أشاروا عليه أن يذهب إلى عرافة بخيبر ، قالت العرافة: كم الدية فيكم ؟ أجابوا: عشرة من الإبل.  قالت: فارجعوا إلى بلدكم وقربوا صاحبكم (عبدالله) وقربوا عشراً من الإبل ، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح – فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل عشراً فعشرا حتى يرضى ربكم ،وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه ، فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم …. (السيرة) فضربوا القداح ونجا عبدالله زين شباب هاشم!.

ويقول (ابن اسحاق) فى السيرة النبوية:

أخذ عبدالمطلب بيد ابنه عبدالله بعد افتدائه من الذبح.  فخرج حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة ، وهو سيد بنى زهرة نسباً وشرفاً فزوجه ابنته آمنة).

سيدات آل زهرة توافدن واحدة فى أثر أخرى ، مُهنئات مباركات قالوا:  هنيئاً لك يا (آمنة) لقد ظفرت بمن (تقطعت قلوب سيدات مكة من أجله).

لأن عبدالله قد اشتهر بالوسامة ، فكان أجمل الشباب وأكثرهم سحراً ، وأستغرقت الأفراح ثلاثة أيام بلياليها كما قالت (بنت الشاطئ) فى كتاب تراجم سيدات بيت االنبوة.

زفاف عبدالله وآمنة:

كان (عبدالله) أثناءها يقيم مع عروسه فى دار أبيها على سُنة القوم ، حتى أشرق اليوم الرابع ، سبقها إلى داره كى يهيئها لاستقبال الوافدة العزيزة ، ثم راحت تودع أهلها وصواحب صباها ، حتى تلقاها (عبدالله) على باب داره متلهفاً مشوقاً ، وراح يريها بيتها االجديد.

سألته العروس (آمنة) هلا حدثتنى يا عبدالله عن أولئك النسوة اللاتى شغلنك. قال: ماذا يريدون أولئك االنسوة من عبدالله ؟

(1)          بنت نوفل أخت ورقة قبل زفافه استوقفتهُ وقالت له: لك مثل الإبل التى نُحرت عنك اليوم (مائة من الإبل) إن قبلت أهب لك نفسى الساعة!  فقال:  أنا مع أبى ، ولا أستطيع خلافه ولا فراقه.

وبعد الزفاف مررتُ بهن اليوم فى طريقى بين دار أبيك ودارنا هذه ، فأشحن عنى بوجوههن معرضات ، فسألت (بنت نوفل): (مالك لا تعرضين علىٌ اليوم ما كنت عرضت علىٌ بالأمس ؟). قالت جواب عجيب: فارقك النور الذى كان معك بالأمس ، فليس لى بك اليوم حاجة (ابن إسحاق فى السيرة).

(2)          وقالت (فاطمة بنت مر): إنى رأيت فى وجهك نوراً فأردت أن يكون لى.

(3)          وسألت الثالثة: (ليلى العدوية) ماذا صدها عنى ؟ فأجابت: (مررت بى وبين عينيك غرة بيضاء ، فدعوتك فأبيت على ، ودخلت على (آمنة) فذهبت بها).

وصمت (عبدالله) وسكنت العروس ، وقد راحا يفكران فى ذلك الموقف الغريب ، وبقى (عبدالله) مع عروسه أياماً لم تتجاوز عشرة أيام ، إذ كان عليه أن يلحق بالقافلة التجارية المسافرة إلى غزة والشام فى عير قريش.

سفر عبدالله مع القافلة إلى بلاد الشام:

ودع (عبدالله) زوجه الحبيبة حين أذن المؤذن برحيل القافلة ، فتشبثت به وقد ساورها هاجس من قلق وتوجس.  فقال لها: (إن هى إلا بضعة أسابيع ثم أعود إليك يا (آمنة) على جناح الشوق واللهفة.

ومضى شهر لا  جديد فيه سوى أن (آمنة) شعرت بالبادرة الأولى للحمل ، قالت: (ما شعرت بأنى حامل به ، ولا وجدت له ثقلة كما تجد النسآء ، إلا أنى أنكرت رفع حيضتى.  وودت لو أطير بالبشرى إلى (عبدالله)

وأهلٌ الشهر الثانى ، وآن للقافلة أن تعود ، فتهيأت (آمنة) وطال بها الإنتظار حتى ساورتها شكوك ، وقد وصل إلى أُذنيها ضجيج اللقاء فى البيوت المجاورة ، فأين عبدالله ؟.

جآء (عبدالمطلب) فى صحبه أبيها ، وقد غطت وجوهم شئ من القلق.  ثم قال: بعض الشجاعة يا (آمنة) عادت القافلة وكنا فى إنتظارها بالحرم ثم أخبرنا رفاقه أن وعكة طارئة ألمت به وهو فى طريقه إلينا ، وعما قريب يشفى ويعود سالماً إليك وإلى مكة وقريش.

فبعث عبدالمطلب إليه أخاه الحارث ، كى يكون معه ، ويصحبه فى طريقه إلينا – فثوبى إلى صبرك وأدعى له.

وفاة عبدالله فى يثرب:

وبعد حين ..  عاد (الحارث) وحده.  عاد لينعى أخاه الشاب إلى أبيه الشيخ، وزوجه العروس..  لقد مات وهو بين أخواله من بنى النجار ، ودفن هناك.  ووجمت (آمنة) للخبر ، وقست عيناها فما تسعفانها ببكاء.  ولبست (مكة) كلها ثوب الحداد على الشاب.

وترملت العروس االشابة ، وما يزال فى يدها خضاب (حنة) العرس.

الآن عرفت (آمنة) سر الذى كان: إن عبدالله لم يُفتد من الذبح عبثاً ! لقد أمهله الله ريثما يُودعنى هذا الجنين الذى أحسست به اللحظة حياً فى رحمى ، والذى من أجله يجب أن أعيش.

ومات (عبدالله) والنبى فى رحم أمه فى الشهر الثانى – وفى هذا الاثناء جآء أبرهة لهدم الكعبة – وخافت أن تلد النبى – صلى الله عليه وسلم – بعيداً عن البلد الحرام وفى غير دار أبيه (عبدالله) (لأن النسآء والأطفال وأل مكة صعدوا الجبل عندما جآء أبرهه بجيشه لهدم الكعبة).

فارسل الله تعالى جنده ليقضى على أبرهه وجيشه ، وبلغت الأصداء مسمع (آمنة) فقامت تدعو وقد أشرق وجهها بنور اليقين والإيمان ، لأن الله استجاب لدعائها فلم يكتب لولدها ، ابن عبدالله ، أن يولد بعيداً عن االبلد الحرام.  ولد فجر الإثنين بعد حادثة الفيل بخمسين يوماً.

فكان أول ما فعلته الوالدة (آمنة) ان بعثت إلى الجد عبدالمطلب ببشرى المولد ، فأقبل مسرعاً وملأ عينيه من حفيده ، وألقى سمعه إلى (آمنة) وهى تحدثه عن كل ما رأت وسمعت حين الوضع: (1) من يهتف بها من جديد ، أنها توشك أن تضع سيد هذه الأمة ، ويأمرها أن تقول حين تضعه: (أُعيذه بالواحد ، من شر كل حاسد).

يقولون أن عبدالمطلب أخذه فدخل به االكعبة ، فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه ، ثم سماه محمد لكي يكون محمود فى الأرض واالسمآء.

ما قالت آمنة عند حملها برسول الله – صلى الله عليه وسلم: 

قالت: فوالله ما رأ يت من حمل كان أخف من حمله ولا أيسر منه ، وقع حين ولدته وإنه لواضع يديه على الأرض ، رافع رأسه إلى االسماء.

(2) وعن أبى أمامة الباهلى ، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم: (رأت أُمي كأنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام ) الطبقات الكبرى لأبن سعد.

وأقبلت الأم (آمنة)  على صغيرها ترضعه ريثما تفد المراضع من البادية لأن لبن (آمنة) جف بعد أيام ، وكذلك لكى يبعد المولود بعيداً عن جو مكة االخانق.

جآءت حليمة السعدية وأخذته إلى ديار بنى سعد.

وهكذا نما الرضيع وترعرع فى رحاب البادية ، بين قبيلة بنى سعد ، وهى من أعرق  قبائل االعرب وأفصحها.

ومكث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سنتين وكأنه ابن أربع سنين.

وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع أمه آمنة بنت وهب فى كلاءة الله وحفظه ، ينبته الله نباتاً حسناً.

السفر إلى يثرب:

أرادت آمنة أن تذهب إلى يثرب كى تزور قبر زوجها عبدالله فحدثت أبنها عن رحلة يقومان بها معاً.

وهش الأبن لفكرة السفر ، وسره أن يصحب أمه فى زيارتها لقبر والده. (2) وأن يتعرف فى الوقت نفسه إلى أخوال جده المقيمين بيثرب.

وكان الجو صيفاً ، حين بدأت السيدة (آمنة) تتهيأ لرحلة طويلة شاقة – وسار الركب فى أول أمره بطيئاً كأنما يعز عليه أن يفارق الديار الغاليات.

وأخيراً شارفت الرحلة منتهاها ، فأقبلت (آمنة) على ولدها تحدث من جديد عن أبيه – ونزلت فى ديار بنى النجار.

أخذت بيد ولدها ومضت تطوف بالبيت الذى مرض به أبوه ، تزور القبر الذى حوى رفاته ، ثم خلت بين ولدها وبين الحياة الجديدة مع أبناء أخوال ، فانطلقوا به إلى ملاعبهم ، يلعب ويمرح ، ويتعلم السباحة مثلهم فى مجامع المياه ، على حين عكفت (آمنة) على قبر الحبيب ، تناجيه حينا وتبكيه أحياناً.

ومكثت فى يثرب شهراً كاملاً ، نفست فيه عن حزنها المكبوت، وتمتع ولدها بالجو االلطيف ، وبصحبة رفاقه من بنى الخال.

وودعت مضيفيها شاكرة لهم ما لقيت ولقى ولدها من جميل ترحابهم وكرم ضيافتهم ، ثم ركبت راحلتها وركب معها ولدها وجاريتها (أم أيمن) ثم أسلمت إلى أحزانها ، والناقة تمضى بها وبمن معها نحو مكة.

الوداعوفاة آمنة:

وفى الطريق من يثرب إلى مكة شعرت (آمنة) بضعف طارئ ، وأحست أنه الأجل المحتوم فتشبثت بوحيدها معانقة وقد أنهمرت الدموع من عينها.

وفجأة تراخت ذراعها عنه ، فحدق فيها فوجد بريق عينيها يوشك أن يطفئ – وتضرع إإليها أن تنظر إليه ، وأن تكلمه فيروى أنها قالت تودعه: بارك فيك الله من غلام.

أخذت (بركة) تلف الجسد الراقد ، وتعصب االوجه الشاحب ، وتغمض العينين ، وتبعها رسول الله وهو مطرق مستسلم ، وهى تحمل الجثة إلى قرية (الأبواء) لكى تجهزها لمثواها الأخير ، حتى إذا أوشك الثرى أن يغيبها ، اندفع وحيدها اليتيم نحوها فتشبث بها ، يريد أن يستبقيها أو يبقى معها.

وعلا نحيب القوم من إشفاق وتأثر ، وخلوا بينه وبين أمه وأضجعوها فى لحدها ، وسووا عليها الرمال .

النبى يزور قبر أمه:

      روى ابن سعد فى الطبقات:  أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما مر بالأبواء فى عمرة الحديبية قال: إن الله أذن لمحمد فى زيارة قبر أمه فأتاه وأصلحه وبكى عنده وبكى المسلمون لبكائه فقال: أفزعكم بكائى ؟ فقلنا: نعم يارسول الله – فقال: أدركتنى رحمتها فبكيت.

      سلام على (آمنة) سيدة الأمهات ، أم النبى المصطفى المبعوث خاتماً للرسل عليهم السلام.

 

( والحمدلله رب العالمين )

 

 

اترك تعليقاً