بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.
أما بعد ،،،
فبعد أن وصف الله جل جلاله حال أهل النار وكيف أن كل نفس تساق معها سائق وشهيد ، والحوار الذى يجري بين الإنسان وقرينه ، وكيف أن الله سبحانه يقول:
(قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28).
لأن اختصامكم لدي لا يجدكم. لا ينفعكم.
وربنا يقول: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24).
هذه صورة مرعبة لحال أهل النار.
ثم يبين لنا القرآن الكريم صورة لأهل الإيمان يوم القيامة:
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31).
قال بعض المفسرين:
إن كل إنسان يعمل الصالحات في الدنيا كأن الجنة تقترب منه ، هذه السعادة تقترب منه كلما استقام على أمر الله.
أتريد أن تكون في جنة وأنت في الدنيا؟ استقم على أمر الله.
أتريد أن تكون في جنة يوم القيامة؟ استقم على أمر الله.
فكلما عملت صالحاً وطبقت منهج الله عز وجل فأنت قريب من الجنة التى وعد الله بها عباده المتقين.
ماذا بينه وبين جنة الآخرة؟
إلا أن يموت فقط.
مثال1: عبدالله بن رواحه أمسك تمرات ليأكلها وهو في المعركة ، فقال: ليس بيني وبين الجنة إلا هذه التمرات ، ألقاها ، وقاتل حتى قُتل.
ما معنى أن الإنسان في الدنيا في جنة؟
جنة الدنيا هو أن تنعم برضوان الله – أن تشعر أن الله الذى خلق السموات والأرض يحبك ، وهو راضي عنك.
(3)أن تطمئن في جنة الدنيا أن ترضى بنصيبك من الله.
(4)جنة الدنيا أن تشعر أن الله معك ولن يتخلى عنك.
(5)جنة الدنيا أن تشعر أن الله يدافع عنك.
(6)جنة الدنيا أن تشعر أن الله لن يكتب لك إلا الخير.
إقتراب الجنة من المؤمنين تكريم وأي تكريم ، وكلما علا مقام الإنسان تأتيه الأشياء ، وتقرب إليه ، وكلما نزل مقامه درجة يسعى إليها بنفسه.
أُزلفت الجنة إليك فكيف تأتي؟ لا نعلم ، هذا مما أستأثر الله بعلمه.
ومن أجمل الأدعية: (اللهم إجعل نعم الآخرة متصلة بنعم الدنيا).
إن المؤمن خطه البياني صاعد والموت نقطة على هذا الخط ، كأن يخلع ثوباً ليرتدي ثوباً ، هو في سعادة يأتيه ملك الموت فيخلع عنه ثوب الجسد ليلبس ثوباً آخر لا يعلمه إلا الله.
التكريم في كل كلمة وفي كل حركة. فالجنة تقرب وتزلف ، فلا يكلفون مشقة السير إليها ، بل هي التى تجئ (غير بعيد) وذلك يوم القيامة وليس ببعيد لأنه واقع لا محالة وكل ما
هو آت قريب.
قربت الجنة من المتقين وهم الذين اتقوا الله تعالى بترك المعاصي فلا تركوا فريضة ولا عملوا كبيرة.
(هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32).
(هذا ما توعدون).
الله وعدنا ، يعدُنا في الدنيا من خلال القرآن الكريم ، والنبى – صلى الله عليه وسلم – يعدُنا من خلال سنته المطهرة.
كما قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) هذا الحديث عن أبي هريرة.
هذا وعد النبى – صلى الله عليه وسلم.
هل هناك فرق بين وعد الإنسان ووعد الله؟
إنسان يعدك ولكن محدود القدرات ، يريد أن ينفذ وعده ، ولكن لا يستطيع قد يموت قبل أن ينفذ وعده ، قد يكون طلبك أكبر من طاقته ، لكن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شئ.
أمره بين الكاف والنون كما جآء في سورة يس الآية (82 ، 83):
(كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83).
مصداقاً للحديث القدسي الذى رواه أبي ذر الغفاري – في صحيح مسلم:
(ياعبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسأليه ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر ، ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
(هذا ما توعدون) لمن هذا الوعد؟
من هو المؤمن؟ هو مخلوق عرف ربه ، وطبق أمره ، فوعده الله وعداً حسناً فهو موعد بالجنة مصداقاً لقوله تعالى في سورة القصص الآية (61):
(أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61).
لمن هذا الوعد؟
( لكل أواب حفيظ)
الأواب: هو الذى رجع عن المعاصي إلى الله (صيغة مبالغة)
حفيظ: يحفظ أمر الله (والذين هم على صلواتهم يحافظون)
شديد الحفظ أولاً لعباداته ، لصلواته ، شديد الحفظ لأوامر الله.
(2)يحفظ الأمانة التى بين يديه: المريض عند الطبيب أمانة – الموكل عند المحامي أمانة – لا ينبغي أن يغشه.
(3) الذى يشترى بضاعة من بائع هو أمانة.
(4)إبنك أمانة أودعه الله عندك ، فكيف ربيته؟
هل علمته؟ هل وجهته؟ هل ضبطت سلوكه؟ هل دربته على طاعة الله عز وجل؟ هل لقتنه الحق؟ هل أعنته على برك بالعدل بين الأولاد.
(5)زوجتك أمانة أوكل الله إليك مصيرها.
الأواب الحفيظ الذى لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر الله عز وجل. حفيظ أيضاً لذنوبه لا ينساها كلما ذكرها استغفر الله تعالى منها.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:
(من حافظ على أربع ركعات من أول النهار كان أواباً حفيظاً) ذكره المواردي في تفسيره.
(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33).
فهذا الذى يؤمن بالله ويتقي الله بالغيب.
أن عقله دله على أن لهذا الكون خالقاً ، وأن كل البشر عباده ، وأنك إذا أحسنت إليهم رضى عنك ، وإن أسأت إليهم عاقبك عقاباً شديداً في الدنيا والآخرة.
كقوله – صلى الله عليه وسلم: (ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه) الحديث أخرجه الشيخان – هو صنف من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة.
(وجآء بقلب مُنيب).
مقبل على طاعة الله عز وجل بقلب مخلص لله عز وجل.
قلب مُنيب = قلب سليم مصداقاً لقوله تعالى في سورة الشعراء الآية (88 ، 89):
(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89).
والقلب السليم هو وحده الذى ينفعك يوم القيامة.
القلب بيت الرب مصداقاً للحديث القدسي: (عبدي طهرت منظر الخلق سنين ، أفلا طهرت منظري ساعة).
هنيئاً لمن أطلع الله على قلبه فرآه سليماً ، ليس فيه غل لأحد ولا حقد على أحد ، ولا إحتيال على أحد.
إدخلوا الجنة بسلام أي مُسلما عليكم وسالمين من كل مخاوف كالموت والمرض والألم والحزن.
بسلامة من العذاب ، بسلام الله وملائكته عليهم ، بسلامة من زوال النعم.
يخلدون في الجنة فلا يموتون أبداً ، ولا يظعنون أبداً ولا يبغون عنها حولاً.
(ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34).
الجنة يدخلها المؤمنون في سلام – في الدنيا تدخل بيتاً رائعاً ، لكنه قطعة من الجحيم ، فيه أمراض ، فيه مشكلات ، فيه خصومات ، أما في الجنة لا يوجد قلق ، ولا إخراج من الجنة ، ولا يوجد منافسون ، ولا وشاة ، ولا من يسعى لإخراجك منها ، ولا تقدم في السن ، ولا مرض.
الفرق بين دار الدنيا ودار الآخرة؟
الدنيا: هي دار كدح ، دار سعى ، دار عمل ، دار ابتلاء ، دار مشقة ، الآخرة: دار تكريم ، دار تشريف ، دار جزاء ، دار راحة.
(لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35).
فمهما تصورت نعيم الجنة فعند الله مفاجآت لا تعلمها.
قال بعض العلماء: المزيد هو رؤية وجه الله الكريم.
فعن جرير قال: خرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا ، لا تضامون في رؤيته). صحيح البخاري
طبعاً رؤية الله في الدنيا مستحيلة ، مصداقاً لقوله تعالى في سورة الإعراف (143):
(قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا (143).
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ينظرون ربهم في كل يوم جمعة على كثيب من كافور) ذكره ابن كثير في تفسيره من رواية الإمام الشافعي.
أهذه الجنة التى هي إلى أبد الأبدين أتُضيع من أجل سنوات معدودة في الدنيا؟
متى يستقر وضع الإنسان؟
بعد الأربعين ، حتى يكون له بيت وزوجة – الأعمار بين الستين والسبعين ، وهذه السنوات العشرون كلها متاعب ، وخصومات وأمراض ، وضيق مادي أحياناً وخوف أحياناً من أجل سنوات عشرين السعادة فيها ليست مضمونة نضيع جنة عرضها السماوات والأرض؟ أين عقل الإنسان؟
ثم يقول الله عز وجل:
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36).
خوف الله عز وجل كفار مكة بما حدث للمكذبين قبلهم – حيث قال: وأهلكنا قبل كفار قريش أمماً كثيرين من الكفار المجرمين ، وهم أقوى من كفار قريش قوة ، وأعظم منهم فتكاً وبطشاً ، فساروا في البلاد وطوفوا فيها ، فهل كان لهم من الموت مهرب؟ وهل كان لهم من عذاب الله مُخلص؟.
ما أكثر الأقوام التى كفرت ، وجحدت ، وانحرفت ، وطغت وبغت ، واستعلت فأهلكها الله عز وجل وهذه الآثار بين أيديكم.
أين عاد وثمود؟ الفراعنة في مصر؟
لاتزال الأهرامات أحد أعاجيب الدنيا حتى الآن ، فمصر أرض منبسطة ليس فيها صخور ، فمن أين جآء بالصخور؟ من أسوان ، كل صخرة مساحتها عشرة أمتار في خمسة أمتار كيف حملت؟ كيف نقلت من نهر النيل إلى موقع الأهرام؟ كيف بنيت؟ كيف نقلت إلى أعلى؟ بأية طريقة؟
هناك بعض الأهرامات فيها نافذة مدروسة بشكل أن الشمس لا تدخل منها إلا في يوم واحد في العام كله – هو يوم موت الملك الذى بنيت الأهرام له ، أو يوم ميلاده.
لو زرت الأهرامات لرأيت كل شئ تحت الأرض ، حتى الطعام قطع اللحم المقددة إلى الآن موجودة ، عمرها ستة آلاف سنة – القمح والحلي الذهبية.
لو رأيت جواز سفر إنسان كثير السياحة ، مرة بأمريكا مرة باليابان ، مرة بالهند ، مرة بباكستان ، مرة بالشمال ومرة بالجنوب ، وآخر شئ بمقبرة لها باب صغير.
كثير من الأشخاص حتى أهل الفن ، وهم في أوج نجاحهم جآءهم ملك الموت (أسمهان – ممدوح عبدالعليم).
فالإنسان العاقل هو الذى يعد لهذه الساعة عدتها ، (1) يعد لها طاعة ، (2) يعد لها معرفة بالله، (3) يعد لها إستقامة على أمر الله، (4) يعد لها عملاً صالحاً، (5) يعد لها إنفاقاً.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37).
إن إهلاك القرى الظالمة ، لتذكرة وموعظة لمن كان له عقل يتدبر به أو أصغي إلى الموعظة وهو حاضر القلب ليتذكر ، وعبر عن العقل بالقلب كما قال الله تعالى في سورة الحج الآية (46):
(فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46).
إن في مصارع الغابرين ذكرى ، ذكرى لمن كان له قلب. فمن لا تذكره هذه اللمسة فهو الذى مات قلبه أو لم يرزق قلباً على الإطلاق. هذه الآية لأهل الكتاب.
إن في ذلك لموعظة يتعظ بها عبد كان له قلب حي وألقى سمعه يستمع وهو حاضر بكل مشاعره وأحاسيسه (وكنى بالقلب عن العقل).
الإنسان حينما يتحرى الحقيقة فيجدها عن طريق التفكر في خلق السموات والأرض – (2) وعن طريق تدبر آيات القرآن الكريم – (3) وعن طريق النظر إلى أفعال الله.
أولاً: التفكر في خلق السموات والأرض:
أن تنظر في خلق السموات والأرض ترى العلم والحكمة والرحمة والقدرة والغنى – وترى أسماء الله الحسنى كلها من خلال خلقه.
ثانياً: التفكر في آيات القرآن الكريم:
تدبر كلام الله عز وجل تر أنه كتاب الله ، كلام رب العالمين عندما تتدبري كلام الله تجدي كل خليه في جسدك وكل قطرة في دمك تشعر أنه كلام الله.
ثالثاً: النظر في أفعال الله:
انظر إلى المرابى كيف أن الله يدمره وانظر إلى المتصدق كيف أن الله ينمي أمواله.
(2)تابع الشاب المستقيم كيف أن الله يوفقه ، وتابع الشاب المنحرف كيف أن الله يدمره.
(3)تابع الذى ينصح الناس كيف أن الله يحفظه ، وتابع الذى يغش الناس كيف أن الله يسحقه.
(4)تابع الذى يتقي الله في معاملة زوجته كيف أن الله يسعده بها ، وتابع من لا يتقي الله في معاملة زوجته كيف أن الله يشقيه بها.
(5)تابع البار بوالديه كيف أن الله يوفقه ، وتابع العاق كيف أن الله يدمره.
(6)تابع الذى يغض بصره عن محارم الله كيف أن الله يسعده في بيته ، وأن الذى يطلق بصره في الحرام كيف أن الله يشقيه في بيته …..
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ).
الإنسان عنده القلب والعقل ، عنده عقل سلطه على الكون فعرف الله ، تدبر به القرآن – فعرف كلام الله.
هؤلاء المتفوقون بتدبرهم وتأملهم وتفكرهم ونظرهم يعرفون الحقيقة. وهناك طريق آخر أن تستمع إلى الحقيقة جاهزة أن تتأمل وتتفكر وتتدبر ، تحضر مجلس علم فتستمع الحقيقة.
(وَهُوَ شَهِيدٌ (37).
يمكن لإنسان أن يجلس مجلس علم وأفكاره خارج المجلس يقول لنفسه:ماذا أعدوا لنا من العشاء اليوم؟ في أثناء التفسير كان فكره في العشاء – في أثناء التفسير خواطر تجارية
أو حل مشكلات، هنا ما أصبح شهيداً في ذلك المجلس – بمعنى أن يستمع وهو حاضر بكل مشاعره وأحاسيسه.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38).
هذه الآية رد على اليهود الذين زعموا أن الله خلق الدنيا في ستة أيام ، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة ، ثم تعب فأستراح يوم السبت ، وهذه فرية من إفتراءات اليهود ، وقوله تعالى: (وما مسنا من لغوب) وهي توحي بيسر الخلق والإنشاء في هذا الخلق الهائل ، فكيف بإحياء الموتى وهو بالقياس إلى السماوات والأرض أمر هين صغير؟
هذه الآية فيها تقرير للمعاد ، لأن من قدر على خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن ، قادر على أن يحيي الموتى الأولى والأحرى مصداقاً لقوله تعالى: (لخق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس).
(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39).
لما يكون الإنسان في ضيق مادى أو ضيق معنوي ، أو حوله أناس أعداء منكرون ، مفندون إن كان له صلة بالله فهذه الصلة تغنيه عن صداقتهم ، وتغنيه عن الإستماع إليهم.
إن الإنسان حينما يتصل بالله يستطيع عندئذ أن يواجه أعداء الحق لأن معه ذخيرة ومعه سلاح ، والإتصال بالله مُسعد ، لذلك الإنسان الفارغ لا يتحمل المعارضة ولا يتحمل النقد ولا يتحمل التخويف فهو ضعيف في الأساس. أما حينما يقوى بالله عز وجل يصبح أقوى من كل قوة تريد أن تنال منه.
حينما تصلى تستعين بالصلاة على كيد الكائدين ، وعلى انتقاد المنتقدين ، لأنك تتصل بالله.
لذلك قالوا: الناجحون في الحياة ليس عندهم وقت يلتفتون فيه إلى منتقديهم. القافلة تمضي والكلاب تعوى ، أما الفارغون من الإتصال بالله عز وجل فكل شئ يزعجهم.
شئ طبيعي أن يكون لك خصوم في العقيدة ، خصوم في المنهج ، فالمؤمن لا يبالي.
إذاً على الإنسان أن يسبح ربه قبل طلوع الشمس (صلاة الفجر) وقبل الغروب (صلاة العصر). الله عز وجل يقول لنبيه: (اصبر وسبح واسجد).
وصل يا محمد واعبد وقتي الفجر والعصر، وخصهما بالذكر لزيادة فضلهما وشرفهما.
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
فشمل هذا الإرشاد والتعليم الإلهي الصلوات الخمس ، إذ قبل طلوع الشمس فيه صلاة الصبح وقبل الغروب فيه صلاة الظهر والعصر ومن الليل فيه صلاة المغرب والعشاء.
ولذا كان النبى – صلى الله عليه وسلم – إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة ، وأدبار السجود أي بعد الصلوات الخمس سبح ربك متلبساً بحمده. (سبحان الله والحمدلله والله أكبر).
وعلى الإنسان أن يصلي السنن الراتبة التى صلاها النبى بعد الصلوات المفروضة.
قال أنس – رضي الله عنه: قال النبى – صلى الله عليه وسلم: (من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين).
الحديث في كنز العمال ، من رواية ابن أبي شيبة
قال أنس: فقرأ في الركعة الأولى (يا أيها الكافرون) ، وفي الثانية (قل هو الله أحد).
(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41).
هذه الصيحة يوم القيامة ، كل الخلائق يسمعونها وتقريباً للأذهان:
إذا صلى إنسان في الحرم المكي أو خارجه أو حول الكعبة أو تحت الأورقة ، في الطابق الثاني ، في الطابق الثالث ، في أي مكان تشعر أن صوت الإمام في أُذنك من خلال أجهزة صوت راقية.
قال عكرمة: ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم ، قال المواردي في تفسيره: يقف جبريل أو إسرافيل على الصخرة فينادي: يا أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، ويا عظاماً نخرة ، ويا أكفاناً فانية ، ويا قلوباً خاوية ، ويا أبداناً فاسدة ، ويا عيوناً سائلة ، قوموا لعرض رب العالمين.
قال قتادة: هو إسرافيل صاحب الصور.
(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42).
قال سيد قطب: إنه لمشهد جديد مثير ، لذلك اليوم العسير ، ولقد عبر عنه أول مرة في صورة أخرى (ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد) أما هنا فقد عبر عن النفخة بالصيحة.
يوم يسمعون صيحة البعث التى تأتي بالحق – وهي النفخة الثانية في الصور ، وهو يوم الخروج من القبور للحساب، لابد من العودة إلى الله.
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43).
الله عز وجل يقول: نحيي الميت بعد موته ، ونميت الحي بعد حياته إذا من ينبغي أن تعبد؟
من يحيي ويميت ، من يرزق ، من يُسير ، من الأمر كله بيده ، نحن نحيي الخلائق ونميتهم في الدنيا ، وإلينا رجوعهم للجزاء في الآخرة ، لا إلى غيرنا.
(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44).
يوم تنشق الأرض عنهم فيخرجون من القبور مسرعين إلى موقف الحساب إستجابة
لنداء المنادي ، وذلك جمع وبعث سهل هين علينا لا يحتاج إلى عناء.
هذه الآية مصداقاً لقوله تعالى في سورة الزلزلة: (إذا زلزلت).
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:
(أنا أول من تنشق عنه الأرض).
كما قال جل جلاله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر).
وقال سبحانه وتعالى: (وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة (0)إن الله سميع بصير).
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45).
يجب أن تعلم علم اليقين أن أعمالك كلها صغيرها وكبيرها مسجلة عليك ، ونحن أعلم بما يقول كفار قريش من إنكار البعث والسخرية والإستهزاء بك وبرسالتك ، وفيه تسلية للنبي – صلى الله عليه وةسلم – وتهديداً لهم.
وما أنت يا محمد بمسلط عليهم تجبرهم على الإسلام ، ما أنت مجبرهم على الهدى ، أي أنت لك أن تبلغ فقط ، لا تستطيع أن تجبرهم لأنهم مخيرون.
إن نظام الخلق أن كل إنسان مخير ، ومهمة النبي أن يبلغ فقط (ما أنت عليهم بجبار) (ما أنت عليهم بوكيل) (لست عليهم بمسيطر).
إنما بعثت مذكر (فذكر بالقرآن من يخافُ وعيد).
أي بلغ أنت رسالة ربك ، فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده ، عظ بهذا القرآن من يخاف عذابي …..
ختم الله عز وجل السورة الكريمة بالتذكر بالقرآن كما أفتتحها بالقسم بالقرآن ليتناسق البدء مع الختام.
وحين تعرض مثل هذه السورة ، فإنها لا تحتاج إلى جبار يلوي رقاب الناس على الإيمان.
ففيها من القوة والسلطان ما لا يملكه الجبارون. وفيها من الإيقاعات على القلب البشري ما هو أشد من سياط الجبارين.
(والحمدلله رب العالمين)