بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى
أما بعد:
فنتابع أولاً: جريمة الشرف (عزيز مصر لم يأخذ موقف)، لم يعد للشرف قيمة ، ويصبح الإنسان ديوث لا غيرة فيه ، رجل عند امرأة تفتن به وتتركه معها ولا عقاب ولا شئ. (كما قال سيد قطب فى تفسيره فى ظلال القرآن ). وبخاصة فى الوسط الأرستقراطى – الذى ليس لنسائه من هم:
1. إلا الحديث عما يجرى فى محيطهن وإلا تداول هذه الفضائح ولوكها على الألسن فى المجالس والسهرات والزيارات. فهى مفتونة به – بلغ حبه شغاف قلبها ومزقه (وشغاف القلب غشاؤه الرقيق) وهى السيدة الكبيرة زوجة الكبير – تفتن بفتاها العبرانى المشترى – وانتشر الخبر وبدأ النسآء يتحدثن بهذا الخبر وانتشر الخبر فى الطبقة الراقية كما يقولون.
2. فبدأوا يعيبون فى امرأة العزيز تريد معاشرة عبد – إنها إذا أرادت معاشرة غيره فلا بأس– تحب عبد إنا لنراها فى ضلال مُبين: إنها وصلت إلى قمة الإنحراف – يعيبون عليها أنها تريد عبداً وانتشر الكلام ووصلت الأخبار والأقاويل إلى امرأة العزيز. (فى ضلال مُبين) أى خطأ واضح: إذ كيف تحب عبداً وهى من هى فى شرفها وعلو مكانتها. الآية (31):
“فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ”.
لقد قابلت مكرهن بمكر أعظم منه فأعدت لهنً حفلة طعام وشراب فلما أخذن فى الأكل يقطعن بالسكاكين الفواكه أمرته ان يخرج عليهن ليرينه فيعجبن برؤيته فيذهلن عن أنفسهن ويقطعن أيديهن بدل الفاكهة التى يقطعنها للأكل وبذلك تكون قد دفعت عن نفسها المعرة والملامة– فلما رأينه قالوا ما هذا إلاَ ملك كريم وذلك لجماله وما وهبه الله تعالى من حسن وجمال فى خلقه وخُلقه.
“وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ“
وهذه التعبيرات دليل على تسرب شئ من ديانات الوحيد فى ذلك الزمان، وهنا باحت امرأة العزيز بسر عشقها له ، قد انتصرت على نسآء طبقتها ، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول. فقالت زليخا التى لا تستحى أمام النسآء والتى تفخر عليهن بأن هذا فى متناول يدها ، فقالت معاتبة لهن:t(رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ”.الآية (32) يوسف
قالت: لا أُخفى عليكن أننى سوف لا أطيق على إعراضه صبراً ولا أستطيعُ أن أملك لقلبى معه زماماً فهو قد ملك قلبى وأسترق فؤادى ، وأطال ليلى وسلب النوم من أجفانى. ولئن لم يفعل ما آمره لأدفعن به إلى السجن يُعانى ظلامه ويبلى فيه رداء شبابه. وهكذا قد أسمعته تهديدها أمام النسوة المعجبات به. ويسمع يوسف – عليه السلام – هذا القول فى مجتمع النسآء المبهورات المبديات لمفاتنهن فى مثل هذه المناسبات. حيث قال فى الآية (33):
“قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ”.
يوسف هنا يدعو الله أن ينقذه منهن ، وهى دعوة الإنسان العارف ببشريته – فيريد مزيداً من عناية الله ، ويعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء.
ولقد كانت العدالة تقضى بأن يكرم يوسف على نزاهته وعفته وأن تعاقب زوجة العزيز على جنايتها ، ولكن الأمر كان بالعكس فقد قدم يوسف البرئ ، وحكم عليه بالسجن – فمكث فى السجن سنوات عديدة تبلغ سبعاً ، كما قال الله تعالى فى الآية (35):
“ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ”.
يقول ابن عباس – رضى الله عنهما: يأمر العزيز بيوسف فحمل على حمار وضرب به بالطبل (يمشى الطبل أمامه) ونودى به فى أسواق مصر – أن يوسف العبرانى أراد سيدته فجزآءُه السجن …
وهكذا اجتاز يوسف محنته الثانية بلطف الله ورعايته “محنة إغراء امرأة العزيز”.
دخول يوسف – عليه السلام
الســـجن
ودخل يوسف السجن ودخل معه فتيان (شابان) بعد أيام من معيشتهم الجماعية فى السجن ورءوا خيراً وفضلاً وعلماً وعبادته لله رب العالمين.
وفى ليلة من الليالى رأى الشابان رؤيا فلما استيقظا ذهبا إلى يوسف وقال أحدهما إنى أرى فى المنام أنى أعصر عنب فى كأس الملك الخمر ، وأما الثانى فقد رأى أنه يحمل فوق رأسه طبقاً من الخبز فأكل الطير منه. فبدأ بالدعوة قبل الإجابة.
فقال: ياقوم إن وراء هذه الأصنام التى تعبدونها والآلهة التى تقربون إليها إلة قد أوحى إلىَ أن أدلكم عليه وأرشدكم إليه ، إن الإيمان بالآخرة كان عنصراً من عناصر العقيدة على لسان الرسل جميعاً ، منذ فجر البشرية الأولى.
ثم بدأ يعرفهم بنفسه ، الناسُ فى هذا الزمان تعرف إبراهيم – عليه السلام –كان مشهور ووصلت أخباره إلى الأرض كلها.
سُئل النبى – صلى الله عليه وسلم – من الكريم ؟ قال: “الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام”.
إن الفطرة الإنسانية تعرف أن لها إلهاً واحداً ففيم إذن تعدد الأرباب ؟. وأن ما تعبدونه من رع أو أبيس أو تمثال أو صنم – ليست إلا أسماء سميتموها أنتم وءَاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.
تفسـير الرؤيا: أما رئيس السقاة فقد رأى أنه يعصر فى كأس الملك الخمر – وأما طباخ الملك المتهم بأنه أراد أن يضع فى طعام الملك السم ليقتله فيصلب فتأكل الطير من رأسه بعد صلبه.
وهكذا تفسير الرؤيا فهو كائن كما قضاه الله (أمر الله).
وبدأ يوسف – عليه السلام حديثه مع الناجى منهم فاذكرنى عند الملك. إذ جد الجد وأحتاج الناس إلى علم ، وأنا لازلت مخلصاً لمصر وأهل مصر. ولكن الساقى بعد أن عاد إلى عمله عند الملك لم ينفذ الوصية لماذا ؟ لأن الشيطان أنساه ما قاله يوسف – عليه السلام – له.
مصداقاً لقوله تعالى الآية (42) سورة يوسف:
“وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ”.
رؤيا الملك وخروج يوسف من السجن:
تحكى لنا الآيات أن الله – تعالى – فتح باب الفرج ليوسف – عليه السلام، وكان من أسباب ذلك أن رأى الملك فى منامه رؤيا أفزعته ، ولم يستطع أحد تأويلها تأويلاً صحيحاً سوى يوسف – عليه السلام – كما قال الإمام ابن كثير.
الرؤيــا: وقال ملك مصر لكبار رجال مملكته: إنى رأيت فيما يرى النائم (سبع بقرات سمان) قد امتلأن لحماً وشحماً (يأكلهن سبع بقرات عجاف) أى ضعاف ، ورأيت أيضاً (سبع سنبلات خضر) وقد امتلأت حباً إلى جانبها سبع سنبلات يابسات ، (قد ذهب نضارتها وخضرتها.
وهنا يوجد سؤال مهم لماذا سمى بالملك ولم يسمى فرعون مصر ؟
وقال الملكُ: ملك مصر وسماه القرآن ملكاً ولم يسمه فرعون .. لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر ، وإنما كان ملكاً لمصر أيام أن حكمها (الهكسوس) وهم العمالقة.
مع أن القرآن قد عبر عن ملك مصر فى زمن موسى بفرعون وهذا يُعدُ من دقائق إعجاز القرآن العلمى.
ثم طلب الملك إليهم تفسير هذه الرؤيا ، فكلهم عجزوا عن التفسير واعترفوا جميعاً بأنهم لا يحسنون تفسير الرؤى. فهو فن لم يألفوه ، وعلم لم يعرفوه وما على الملك إلا أن ينسى أو يتناسى.
مصداقاً لقوله تعالى الآية (44):
“قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ”.
فحكموا على هذه الرؤيا بأنها أخلاط من الصور ليس لها رابط ولا ضابط ، وليس لها تفسير ولا تأويل.
وهناك تذكر ساقى الملك قدرة يوسف على تفسير الأحلام فطلب من الملك أن يرسله إلى السجن ليأتيه بالخبر اليقين.
ولما عرض الساقى على يوسف رؤيا الملك أسرع يوسف بتأويلها وبيان عواقبها ومزج التفسير بالنصح والإرشاد لمواجهة الجدب (جفاف) الذى سوف ينزل بالبلاد لمدة سبع سنين متواصلة بعد رخآء يدوم سبع سنين ، ويوسف – عليه السلام – لم يكن عالماً يفسر الرؤيا فحسب ، بل كان رسولاً مصلحاً أرسله الله هادياً للناس فى دنياهم وآخرتهم ومعاشهم ومعادهم ، وقد أخبر يوسف – عليه السلام – الساقى بأنه سيأتى بعد هذه السنين المجدبة عام يجد فيه الناس خيراً كثيراً ينقذهم مما كانوا فيه من جفاف وجدب وشدة عام يعصرون فيه كل ما من شأنه أن يعُصر عندهم من الفواكه والقصب والسمسم والعنب والزيتون وغيره.
وهذا لم تدل عليه الرؤيا إنما هو مما علمه الله تعالى. إذاً يوسف أفادهم به من غير ما سألوه ذلك إحساناً منه ولحكمة عالية أرادها الله تعالى – ربما أراد يوسف – عليه السلام – أن يرجع الساقى بهذه البشرى تأليفاً لقو بهم وإستدعاءً لسرورهم وإذهاباً لخوفهم من تلك السنين، فهذا التأويل يدل على أنه عليه السلام قد أوتى من العلم بشئون الحياة كلها فعرف أن الدهر يومان (عسر ويسر) وأن الناس يتقلبون فى نعيم وبؤس ، وأنه يجب عليهم أن يأخذوا من رخائهم لشدتهم (القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود).
وقد أعجب الملك بتأويل يوسف غاية الإعجاب ، فأمر بإخراجه من السجن ، ليجعله من خاصته المقربين.
وهذا يدل كما قال (الإمام الفخر الرازى) فى تفسيره على فضيلة العلم ، فإنه سبحانه جعل ما علمه ليوسف سبباً لخلاصة من المحنة الدنيوية.
هل ترى يوسف فرح وخرج من السجن ؟
ولكن يوسف أبى أن يخرج من السجن وعليه سمة المجرمين ، حتى يقر خصومه ببراءته ، فتبرأ ساحته من تلك التهمة الشنيعة ، ويشهد الناس بنزاهته وذلك هو منتهى العزة النفسية والكرامة النبوية كما قال الشيخ محمد على الصابونى فى كتابه (النبوة والأنبياء).
وهناك أحاديث تدل على فضل يوسف – عليه السلام:
عن عكرمة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: “لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سُئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجونى”. هذا الحديث يدل على تواضع النبى الكريم مع أنه من أولى العزم من الرسل .
ولولا إعتراف امرآة العزيز بهذا القول الصريح الذى حكاه القرآن لظلت القضية مائعة قابلة للأخذ والرد والقيل والقال ولظل يوسف فى سجنه حتى تحسم هذه القضية.
وقالت امرأة العزيز: فقد كان فتى وسيماً جميلاً ، فعلقه قلبى ، فدعوته فتأبى وكان لربه حافظاً ولزوجى وافياً. وأنا قذفت به إلى السجن، ذلك الذى أعترف به الآن فى وضح النهار بين سمع الملك وبصره وبين حاشيته.
وكذلك بأن عقيدة يوسف قد أخذت طريقها إلى قلبها فآمنت. الدليل هذه الآية رقم (52):
“(ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ”)
النفس البشرية أمارة بالسوء وبالميل مع الهوى والشهوات ، إلا نفساً رحمها الله وعصمها من الذلل والإنحراف.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن القسم الأول من حياة يوسف – عليه السلام – الذى تعرض خلاله لألوان من المحن والآلام بعضها من إخوته وبعضها من امرآة العزيز وبعضها من السجن ومرارته. ثم بدأت بعد ذلك فى الحديث عن الجانب الثانى من حياته عليه السلام ، وهو جانب الرخاء والعز والتمكين فى حياته.
وقال الملك: “ائتُونى به” بيوسف بعد أن ظهر له علمه وكماله الروحى أجعله خالصاً لى استشيره فى أمرى وأستعين به على مهام ملكى. قال يوسف – عليه السلام – كما أخبرنا القرآن الكريم الآية(55):
“قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ”.
بمعــنى: اجعلنى أيها الملك المتصرف الأول فى خزائن أرض مصر، لأنى شديد الحفظ لما فيها عليم بوجوه تصريفها. ومعنى هذا أنه حل محل العزيز الذى قد مات فى تلك الأيام ، وأنا حفيظ على ما أتولى تدبيره عليم بكيفية الإدارة وتدبير الشئون.
وتولى يوسف شئون الملك ، وصارت الدنيا كلها عنده وفى قبضته فملكها بيديه ولم يملكها بقلبه ، وعاش فى مصر ملكاً نبياً. ومكن الله ليوسف فى الأرض ، فأضحى بين عشية وضحاها وزيراً مطلق اليد ، مسموع الكلمة ، نافذ السلطان. وقد كان بالأمس سجيناً أسيراً ومن قبل غلاماً يباع ويشترى ويُسلب ويُعطى:
“ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم”.
“(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)”
قال الفخر الرازي عند تفسيره لهذه الآيات: أعلم أنه لما عم القحط البلاد ووصل أيضاً إلى البلدة الى كان يسكنها يعقوب – عليه السلام – وصعب الزمان عليهم فى فلسطين بالشام – فقال لبنيه: إن بمصر رجلاً صالحاً يمير الناس أى يعطيهم الطعام وما هم فى حاجة إليه فى معاشهم فاذهبوا إليه بدراهمكم وخذوا منه الطعام – فخرجوا إليه وهم عشرة ولم يبق منهم سوى (بنيامين) مع أبيه يعقوب.
ودخلوا على يوسف وصارت هذه الواقعة كالسبب فى اجتماع يوسف مع أخوته وظهور صدق ما أخبر الله عنه فى قوله ليوسف حال ما ألقوا به فى الجب: (“لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون)”.
الحكـاية: واستأذن الحاجبُ على يوسف فقال: إن بالباب عشرة رجال تتشابه معارفهم ويلتمعُ نور الصلاح فى وجوههم – وأذن لهم يوسف ودخلوا عليه فإذا هم إخوته وبنو أبيه لم تتغير معالمهم – هم إخوته الذين تآمروا على قتله وتظاهروا على إيذائه وهم الذين فرقوا بينه وبين أبيه – وهاهم أولاء يلقاهم اليوم فى حضرته من غير سابق تدبير بل بإحكام من اللطيف الخبير: (“وقد يجمعُ الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا) عرفهم وما عرفوه ولكن يوسف كان حازماً حكماً لم يبادئهم بالإعلان عن نفسه والإفصاح عن أمره بل حاول أن يصل إلى ما فى نفوسهم وما خفى عليه من أخبارهم واحتجب من أحوالهم.
آواهم وأكرم وفادتهم وأحسن ضيافتهم ثم دعاهم يوماً إلى حضرته وقال لهم: لقد أكرمتكم ومن حقى أن أسألكم فمن أنتم ما شانكم ؟ وأخشى أن تكونوا عُيوناً علينا من ملككم !
قالــوا:أيها العزيز نحن اثنا عشر أخاً – سلالة بنى كريم ورسول عظيم – عشرة منهم هم رُسله الآن بين يديك وأما الحادى عشر فقد خلفناه عند أبيه يقومُ على أمره ويسهرُ على رعايته ، وأما الثانى عشر فقد فقدناهُ ولا ندرى أختاره الله لجواره أم هو يضربُ فى الأرض الواسعة.
قال يوسف: قد يكون حقاً ما تقولون – ولكن لا وزن لقول لم يدعم بشاهد – فأقيموا عندى البينة أو ائتوا بالشاهد حتى أطمئن لحقيقة حالكم..
قالـوا: أيها العزيز – إنا فى غُربة عن بلادنا وُزلة عن أصدقائنا وأهلينا – ولكن ألتمس لنا غير هذا المخرج.
قال يوسف: إنى سأجهزكم بجهازكم على أن تعودوا معكم أخوكم الذى خلفتموه عند أبيكم ليكون شاهداً عليكم مصدقاً لأقوالكم وهذا هو شرطى ، وذلك هو عهدى: “(فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ”).
قالوا: أيها العزيز ، ما تظن أن أبانا يأذنُ بسفره ، أو يصبر على فراقه ، ولكننا سنراوده عنه ونتلطف إليه.
وأمر غلمانه أن يوُفوا لهم الكيل وأن تدُسوا لهم فى رحالهم البضاعة التى حملوها والفضة التى جاءوا يبتاعون بها لكى يرجعوا.
قالوا: يا أبانا إنا لقينا رجلاً عظيماً ووزيراً كريماً ولكنه أخذ علينا عهداً وشرطاً ألا يكيل لنا حتى نأتيه بأخينا.
قال يعقوب: لن آذن لكم بسفره – ولن أستريح لفراقه – وهل تروننى آمنكم عليه كما أمنتكم على أخيه من قبل ؟ فاصرفوا عنى كيدكم وأكفونى شركم..
وفتحوا متاعهم وفتشوا رحالهم فإذا بضاعتهم قد ردت إليهم وفضتهم قد عادت معهم..
ورأى يعقوب أن حاجتهم إلى الطعام ماسة ورغبتهم فى الرحلة أكيدة فأذن لهم ببنيامين على أن يأخذ عليهم عهداً أكيداً وشرطاً وثيقاً: “أن يأتوه به سليماً مُعافى ، إلا أن ينزل بهم قدر لم يك فى الحُسبان”.
وأخذوا على أنفسهم الميثاق ووكدوا الإيمان وقالوا: “(واللهُ على ما نقول وكيل)”.
ووصلوا إلى ساحة يوسف ورأى يوسف أخاهُ فحنا عليه ورق له ولكنه أخفى عواطفه – وستر ما فى نفسه ودعاهم إلى طعامه وأجلسهم مثنى وبقى بنيامين وحيداً ، فبكى وقال: لو كان أخى يوسف حياً لجلس معى فأجلسه معه على مائدته – ثم قال: لينزل كل اثنين منكم بيتاً وهذا لا ثانى له فيكون معى – فبات عنده. وقال له يوسف: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ قال: من يجد أخاً مثلك ؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه ، وقال: إنى أنا أخوك الذى تنشده وتهتفُ باسمه ، وقد لقيت من كيد إخوتك ألواناً – وابتليت بعدهم بمحنة ، وأصبت بفتنة ولكنى صبرت وجاهدت حتى أبدلنى الله كما ترى نعيماً ببؤس – وغنى بفقر – وعزاً بذل – وكثراً بقل، فاكتم عن إخوتك هذا الخبر..
,وفي الدرس القادم : ماذا فعل يوسف لكي يعيش معه أخيه بنيامين في مصر؟
( الحمد لله رب العالمين)