نماذج من الصبر ( 2 ) عروة بن الزبير

بسم الله الرحمن الرحيم

       الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.

أما بعد،،،،

فالصبر ثلاثة:

(1)            صبر على أداء فرائض الله تعالى.

(2)            صبر عن محارم الله تعالى (البعد عن المعاصي).

(3)            صبر على المُصيبة عند الصدمة الأولى وهذه أعلى درجة لماذا؟

لأن الصبر على بلاء الله تعالى لا يقدر عليه إلا الأنبياء لأنه بضاعة الصديقين.  فإن ذلك شديد على النفس.

فمن أمثلة الصبر:  عروة بن الزبير

     أبوه الزبير بن العوام وهو حوارى النبى – صلى الله عليه وسلم – وأمه صفية بنت عبد المطلب – رضوان الله عليها – أمه أسماء بنت أبي بكر – وأخوه عبدالله بن الزبير وصبره أمام الحجاج الثقفي.

          عروة هذا دُعى ذات يوم من بعض أمراء بني أمية إلى دمشق ونصحه ابن عباس ألا يذهب إلى هؤلاء الحكام الظلمة – فإن العالم إذا تردد على باب الحاكم فهو لص خائن لدينه فليحذر.  ولكن عروة كانت نيته طيبة.  وقال:  (إنه قد دعانا وإنه لابد من السمع والطاعة للأمير وأولى الأمر منهم) ، وكان عروة عمره سبعين سنة فاصطحب ولده معه الكبير ولما وصل إلى دمشق كان من عادته لا يذهب إلى بيت من البيوت إلا بعد أن يُحيي الله عز وجل بركعتين في المسجد الكبير – فدخل المسجد ليؤدي تحية المسجد – ثم ذهب ولده مع الأمراء الصغار أبناء الأمير وأخذوه وعلموا أن هوايته في الركوب على الخيل.

          وكان شاباً قوياً يحب الخيل والجهاد عليه فرفسه فرس في صدره رفسة قوية فمات – وجآء الناعي إلى والده وهو مازال يصلي ويقرأ القرآن (كان يتلو القرآن في أربعة أيام يختم ختمة – 2/1 7 جزء فى اليوم) ، وهو واقف على الباب فقال يا عروة:  (احتسب عند الله ابنك لقد مات الآن شهيداً).

          قال راوي الأثر:  فوالله ما رفع عروة رأسه عن المصحف بل أستمر يقرأ ، وعندما انتهت قراءته وقال:  صدق الله العظيم – وبلغُه رسول الكريم ألتفت إلى المبلغ وقال ما تقول أرشدك الله – قال الرجل:  لقد قتله الفرس الآن – فقام عروة وصلى ركعتين وقال:  (إن لله وإنا إليه راجعون – اللهم أجرني في مُصيبتي وأعقبني خيراً منها).

          قال المبلغ:  بلغتك موت ولدك وأنت لم ترد علي؟  قال ياهذا:  (لقد رددت عليك بما أمر الله به – والله أمرنا عند المصائب بالصبر والصلاة).  مصداقاً لقوله تعالى في سورة البقرة الآية (153):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

          واستمر يقرأ ..  وحاول المبلغ أن يأخذ عروة إلى المكان الذى مات فيه الولد – والناس في منتهى الحزن والأسى واللوعة على موت الولد – ولكن عروة أصر على أن يبقى في المسجد حتى يتمم حزبه الذى فرضه على نفسه كل ليلة وهو ربع القرآن.

          ودنا الفجر فرفض أن يخرج حتى جآء الناس جميعاً علماء دمشق والأمير لا يكادون يُطيقون أن يروا وجه الأب مما حدث لأبنه ولكن وجدوه (1) مؤمناً (2) صابراً (3) جلداً (4) ثبتاً – أذن الفجر – وصلى الناس ركعتين النفل ثم صلى بهم عروة كأحسن ما يصلى بهم الإمام حتى أرتفعت الشمس فقال قُوموا إلى صلاة الضحى أرشدكم الله.

          فلما انتهوا من صلاة الضحى قال أيها الناس:  ربما قد بلغكم ما أمر الله به والآن انتهينا من حق الخالق فلنذهب لدفن المخلوق – وخرج عروة الصابر المؤمن إلى جنازة ولده حتى إذا انتهى من دفنه والناس يتعجبون كيف يواسون كيف يعزون.

          وقف على قبره يستغفر الله له:  (استغفروا لأخيكم وأسالوا الله له التثبيت فإنه الآن يُسئل).

          عاد عروة إلى القبر وقال:  يا ولدي رحمك الله (1) فقد كنت باراً بوالديك ، (2)ومطيعاً لربك فجمعت بين الركنين – يا ليت شعري ماذا قلت للملكين وماذا قالوا لك إن حُزننا لك وليس حزننا عليك.

بمعنى:  أننا نحزن من أجل مصلحتك في القبر هل أجبت الملائكة في السؤال أم تلعثمت – أما إننا نحزن على الفراق فلا فإننا جميعاً ميتون.

          ثم قال اللهم إنك تعلم أن ولدى هذا كان أبر الناس بأبيه وأمه وأنه كان يوحدك فإن فلتت منه فلته نحوى أو نحو أمه فنشهدك أننا سامحناه وسامح أنت في حقك وأنت أكرم الأكرمين ، ثم عاد عروة الصابر من دفن ولده بعد أن ودعه خير وداع – وكان قريب من وقت الظهر ولم يكن قد دخل بيت من البيوت فدخل المسجد – وحاولوا أن يأخذه إلى بيت الأمير الداعي فقال:

          (معاذ الله أن يراني ربي في وقت الصلاة في غير المسجد).

          فدخل المسجد وأقيمت الصلاة وعجز عروة أن يقوم للإمامة وظنوا أنه بدأ يحسُ بالضعف والحزن على ولده وأنه بدأ يشعر باللوعة ابنه ولا سيما وسنه قد زاد على السبعين فعزروه وصلى غيره إماماً وصلى هو بالجلوس – فلما انتهت الصلات قال:  (يا أيها الناس لا تظنوا أنني صليتُ مأموماً أو جالساً من ضعف من أجل ولدي فهذا أمر أحتسبته عند الله ولكنني أحس بحرقة شديدة في قدمي اليمنى ولا أدرى).

          وجآء الطبيب ونظر إلى قدمه اليمنى وقرر أن مرض الأكله قد دب في قدمه (السرطان) فتشاور الناس – فلما وجد الناس يتناجون فيما بينهم.

          فقال عروة لهم:  أيها الناس اتقوا الله في ضيفاً آتاكم فإن كنتم ترون شيئاً واجهوني بالحقيقة فإني لست طفلاً وإنما نحن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه – فواجهوني بقضاء الله (1) فإننا لله صابرون ، (2) وبحكمه راضون ، (3) ولأوامره مسالمون.

          قالوا ياعروة قضاء الله – قال هل في رجلي مرض يستوجب القطع؟  قالوا:  نعم.  فهذه مُصيبة كبرى بعد مُصيبة الولد مُصيبة النفس والبدن ، ونخشى أن يتسرب المرض إلى باقي الجسم وإلى قلبك.

          فقال:  إن تأخركم الآن مُصيبة فبادروا واقطعوها فأراد أن يأخذوه إلى بيوت الأمراء.  فقال:  لا هنا في المسجد حجرات ملحقة للمناجاة والضيوف والمبيت فأجروا فيها العملية – وجآءوا ببعض المخدرات  وبعض المسكرات حتى لا يشعر بإجراء العملية قال مصيبة أرجوا ثواب الله عليها فإتعاطى عليها مُسكراً معصية لله حتى يضيع ثوابى – قالوا:  إنك لم تُطيق وأنت رجل مُسن.

          قال عروة:  سأكفيكم نفسي – قالوا:  فلتتناول مخدراً – لا – منوماً:  لا ، وجآء أربعة من الأشداء يمسكوا رجله حتى يخففوا بعض الإحساس بالألم ولم يرضى وقال:  أنا سأكفيكم نفسي.  قالوا:  ماذا تصنع؟

          قال:  بنجي أن تدعوني لاحرم بالصلاة بين يدي الله بشرط أن تنتهوا من العملية قبل السلام – فإني في أثناء الصلاة أغيب عن الوجود ولا أشعر بشئ ، (وجعلت قرة عيني في الصلاة).

          وفعلاً تم قطع الرجل وراوى الأثر يقول:  إنهم لما وصلوا بالسكين إلى المفصل وجدوا السكين لا تقطع والنزيف ينزل – وجآءوا بالمنشار لقطع العظم وكانت عملية قاسية وأوقفوا النزيف بزيت مغلي وربطوا وعروة يصلي بالجلوس لا يعلم شئ عما يجرى فيه ، ثم قال:  (أيها الناس هل انتهيتم أم مازلتم تتشاورون) – قالوا:  أنتهينا.

          قال:  أين هي؟  تدفنون بعضي من غير أن أُدعُه – رجلي معي منذ سبعين سنة فجآءوا بها فحملها عروة بين يديه وقال:  (اللهم لك الحمد أعطيتني أربعة أطراف – فأخذت منها رجل واحدة وأبقيت لي ثلاث يدين ورجلاًاللهم لك الحمد فيما أبقيت وعلينا الصبر فيما أخذت ، وقد بقيت لنا أكثر مما أخذت).

قال عروة:  لئن كان الله قد أخذ شيئاً فقد أبقى أشياءاً فقد أبقى:  (1) العقل ، (2)اللسان ، (3) والسمع ، (4) البصر ، (5) ويدين ، (6) وإحدى الرجلين.

فقالوا:  فما سمعنا أحداً عز نفسه بما عز عروة نفسه.

          قالوا وابنك ياعروة.

          قال:  والله إن ابني لقى الله شهيداً فنفع نفسه وصبرت عليه فنفعني بالصبر ولو كنت أنا مُت قبله وتركته فلعل دينه يُفسد بعد موتي فلاينفع نفسه ولا ينفع آباه أما الآن فقد مضى إلى الله فرطاً بين يدى والله يقول:

          (وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً).

          وقال بعض السلف الصالح:

          (لولا مصائب الدنيا مع الإحتساب لوردنا الآخرة مفاليس).

 

((  والحمدلله رب العالمين  ))

 

 

 

 

اترك تعليقاً