التوبة إلى الله عز و جل 1

 بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.

أما بعد:

فلو أن سيدة احترق بيتها أو اشتعلت النار بسيارتها – ما الذى سيحدث ؟ تبذل كل وسعها من أجل إطفاء النيران وإنقاذ الأثاث بقدر الإمكان هى تهمل القلب الذى هو محل نظر الرب.

(إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم).

نار الدنيا تنطفئ من نفسها إذا فنى الوقود ، بينما نار الذنوب تظل مشتعلة لا تُطفأ إلا بمآء التوبة.

إذاً التوبة إلى الله تعالى ضرورة شرعية وكما قال الإمام ( النووي يرحمه الله تعالى):  إن التوبة من جميع المعاصى واجبة على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة.

هناك حديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم يقول:  (أذنب عبدُُ ذنباً فقال:  يارب إنى أذنبتُ ذنباً فأغفر لى.  فقال الله عز وجل:  علم عبدى أن له رباً يغفر الذنب قد غفرت له ، ثم مكث حيناً (يومين ، شهرين ، سنتين الله أعلم) فأذنب ذنباً آخر. فقال: فأغفر لى.  قال الله عز وجل:  علم عبدى أن له رباً يغفر الذنوب قد غفرت له ، قال النبى:  ثم مكث حينُ ، فأذنب ذنباً (ذنب ثالث) فقال:  فأغفر لى ، فقال الله تعالى:  قد غفرت, قد غفرت , قدغفرت , فليعمل عبدي ما يشآء)  صلى الله عليه وسلم.

العلماء قالوا:  تفسير هذا الكلام ليس معناه إصرار على الذنب وليس معناه جُرأ على الله وكما قال النبى – صلى الله عليه وسلم

(التائب من الذنب وهو مقيم عليه مستهزءو بربه)

الحديث يقول:  فأذنب ذنباً آخر.

مثال (1):  وليكن الزنا فقال:  يارب أغفر لى ، فقال الرب: قد غفرت ، لم يرجع إلى الزنا مرة أخرى.

ومن شروط التوبة أن لاتعود إلى هذا الذنب إلا كما يعود اللبن إلى الضرع.

ومكث شهر أو اثنين ثم أذنب ذنباً آخر.

وليكن ترك فرض من الصلاة – فيقول يارب – أغفر لى.  يقول الرب سبحانه وتعالى:  قد غفرت.

ومر شهر – ثم أذنب ذنب ثالث:  سرقة غير الزنا وغير ترك صلاة الله سبحانه وتعالى يقول له: أنت عرفت الطريقة إذا أخطأت من غير تعمد وغلبت عليك الشهوة والقدر وعلمت أن لك رباً فليعمل ما يشآء (قد غفرت – قد غفرت – قد غفرت فليعمل عبدى ما شآء).

ما معنى (فليعمل عبدى ماشآء):  رب العزة سبحانه وتعالى يقول له: إن العلاج موجود – وحلمى ورحمتى سبقت غضبى. (كتب ربكُم على نفسه الرحمة) (يريدُ الله بُكم اليسر ولا يُريد بُكم العسر).

والإمام النووي يقول: مادام الإنسان علم:  (1) أن له رباً ، (2) ولم يصر على الذنب ، (3) ويعزم على ألا يعود إليه ، (4) ويندم على ما فات ، (5) ويرد الحقوق إلى أصحابها ، ثم بعد ذلك يغلب الشيطان عليه ويعمل ذنب آخر – فيتوب مرة ثانية فإن الله فاتح باب الرحمة.

والحديث الثانى عن أبى هريرة – رضى الله عنه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت فى قلبه نُكته سوداء ، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سُقل قلبه ، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذى ذكره الله).

(كلا (.) بل ران على قُلوبهمُ ما كان يكسبون).

إذاً الحديث فيه الوعد والوعيد وفيه الإبشار وفيه الإنذار يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم:  التى يغلط غلطة تأتى له نقطة سوداء فى القلب مثل الجلباب الأبيض لما يأتى فيها بقعة – القلب من جوه يسود – تجد الذي يغضب ربه (بعد المعصية) حصل عنده غم وضيق فى الصدر وجرئه على الله ، إذا هو استغفر وتاب من قريب – راحت النقطة السوداء.

الدليل من القرآن:الآية (135) آل عمران:

َالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ

اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ

وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

سيدنا معاذ بن جبل – رضوان الله عليه له وصايا– كان النبى – صلى الله عليه وسلم – وصاه بها منها (23) وصية (يا معاذ اذكر الله عند كل حجر وشجر وأحدث لكل ذنب توبة السر بالسر والعلن بالعلن).

ما معنى هذه الحكمة ؟  (اذكر الله عند كل حجر)

كناية عن الجبال والبوادى والصحراء (والشجر) كناية عن الحضر مع الناس اذكر الله – سواء كنت لوحدك فى جبل أو فى غيط أو فى مصنع أو كنت فى الحضر نذكر الله.

معنى ذكر الله –ممكن تذكر الله وأنت صامت – كيف ؟

انظر إلى السمآء ومن رفعها – وتنظر إلى الجبال من أرساها – وتنظر إلى الأرض من خفضها ، وإلى الشجر ومن أخضره ، وإلى المياة ومن أجراها. وهذا نوع من الذكر .

(وأحدث لكل ذنب توبة):  كل ما تغلط وتعمل ذنب اعمل وراءه توبة.

(السرُ بالسر) إذا كانت غلطتك سرية بينك وبين الله تبقى توبتك سرية بينك وبين الله ولا تجيب سيرة لأحد – مادام الله قد ستر عليك فلا تُعلم أحداً).

(والعلنُ بالعلن) أما إذا كانت الغلطة علنى أمام الناس الله يقول: لا أقبل منك توبة إلا إذا كانت علاناً – الرأى العام سمع بالغلطة – وعرفوا تجرؤك على الله.

مثـال (1):وإذا قلت حكم شرعى خطأ أو حيث ليس صحيح فيجب عليك ان تأتى فى نفس المكان وتقولى يا أخواتى أنا قلت كذا وهذا حديث غير صحيح ولو بعد سنة .

إذا استغفرت بينك وبين الله لا ينفع.

ولهذا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين – رضوان الله عليه– لما غلط فى تحديد المهور أمام المصلين فى المسجد فى خطبة الجمعة حسب رأيه وقال لهم:  لا يصح أن تكون بناتكم أحسن من بنات الرسول ، ولا نسائكم أغلى من نسآء الرسول.  قال:  الرسول – صلى الله عليه وسلم – عمره لم يقبض فى بناته أكثر من 400 درهم وعمره ما أعطى نسآئه أكثر من 400 درهم –فلا يصح أن نسائكم وبناتكم تأخذ أكثر من نسآء النبى وبناته.

وإذا بلغنى أن واحد منكم أخذ أو دفع مهر سوف أخذ الزيادة وأضعها فى بيت مال المسلمين (خزينة الدولة).

وافق الناسُ على ذلك – طلع من المسجد قابلته سيدة متربية على شريعة القرآن قالت: لماذا تحدد مهورنا ؟؟  قال عمر: أنتم أغلى من نسآء الرسول ؟ قالت: الرسول صلى الله عليه وسلم كان له نظام فى زُهده وتواضعه ، ولكن الله أعطانا وأنت أعلمُ أم الله (فكان عمر إذا سمع كلمة الله يذوب مثل الملح) قال عمر: استغفر الله ربى أعلم ، قالت:  الله أباح للواحدة منا بنت أو سيدة أن تقبض فى مهرها قتطاراً من ذهب أو فضة. سورة النسآء الآية (20):

(وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ

إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ

بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا).

  إن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة طلقتموها – وقد دفعتم مهراً كبيراً يبلغ قنطاراً من الذهب أو من الفضة فلا تأخذوا ولو قليلاً من ذلك المهر.  وهنا يحرم الله عز وجل أخذ شئ من مهر المرأة إذا طلقها الزوج لا لإتيانها بفاحشة ولا لنشوزها – ولكن لرغبة منه فى طلاقها ليتزوج غيرها –  فى هذه الحالة لا يحل له أن يضارها لتفتدى منه بشئ ولو قل.

 ولو كان قد أمهرها قنطاراً فلا يحل له أن يأخذ منه فلساً.

فلما سمع عمر الآية فقال: يا أمة الله: كأننى ما سمعت هذه الآية إلا الآن. وكان رجاعاً إلى كتاب الله.  قال عمر:  أنا غلطت على المنبر أمام الرأى العام فيجب أن تكون التوبة أيضاً على المنبر أمام الرأى العام..  مع اعترافه أمامها ومع توبته واستغفاره.

جآء فى الجمعة التالية وقال:  أيها الناسُ فى الأسبوع الماضى فى مثل هذا الوقت كنتُ أعلنتُ أمامكم قراراً والله إنه لم يكن من كتاب الله ولا من سنة رسوله ولكنه رأى رأيته لمصلحة الناس ، ولكن امرأة من عوام الناس قابلتنى فى عرض الطريق فردتنى إلى كتاب الله  وتلت علي آية والله كأنى ما سمعتُها ، أصابة امرأةُ وأخطأ عمر ، فزوجوا بناتكم بما تشآءون وكما تشآءون.

… هذه تعتبر توبة ..  ولكن توبة فى محلها.

التوبة تكون علناً. (يا معاذ أحدث لكل ذنب توبة السرُ بالسر والعلن بالعلن) العلمُ قرر ونبيك قرر أن المعصية بتولد هالة حول العاصى .. وبتصبغه بصبغة خاصة وأنت يارب قلت فى القرآن (تعرفهم بسيماهم) (تُعرف المجرمون بسيماهم فيوخذُ بالنواصى..)

كل إنسان يأتى يوم القيامة وهو يحمل أدلة صلاحه وطلاحه وفساد وإيمان معه هو (اكتفاء ذاتى) حتى العاصى لا يحتاج إلى شهود – نفرض أن إنسان عمل ذنباً ومات ، يأتى يوم القيامة كل من فى أرض المحشر يعرف هذا الذنب ، لو أنه تاب قبل الموت ؟.

ماذا تفعل االتوبة ؟ أوما هى فوائد التوبة ؟

الرسول طمئنا وقال: (إذا تاب العبدُ أنسى الله الحفظة ما عمل وأنسى جوارحه ما عمل ، وأنسى بقاع الأرض ما عمل حتى يأتى يوم القيامة ليس عليه شاهد بذنب) – صدقت يا رسول الله.

 

أمثلة للتوبة:

أولاً:  توبة شاب من المجون بعد هلاك صديقه:

يقول صاحب القصة:  كنا ثلاثة من الأصدقاء يجمع بيننا الطيش والعبث ، بل أربعة فقد كان الشيطان رابعنا ، فكنا نذهب لإصطياد الفتيات الساذجات بالكلام المعسول ونستدرجهم إلى المزارع البعيدة ، وهناك تفاجأ بأننا قد تحولنا إلى ذئاب لا ترحم توسلاتهن ، بعد أن ماتت قلوبُنا ، ومات فينا الإحساس

وهكذا كانت أيامنا وليالينا فى االمزارع فى المخيمات والسيارات وعلى الشاطئ إلى أن جآء اليوم الذى لا أنساه.

وذهبنا كالمعتاد إلى المزرعة ، كان كلُ شئ جاهزاً (1) الفريسةُ لكل واحد منا ، (2) الشراب الملعون ..  شئ واحد نسيناه هو الطعام.

وبعد قليل ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته ، كانت الساعة السادسة تقريباً ، ومرت الساعات دون أن يعود – وفى العاشرة شعرتُ بالقلق ، فانطلقت بسيارتى أبحث عنه ، وفى الطريق شاهدت بعض ألسنة النار تخرج على جانبى الطريق.  وعندما وصلت فوجئت بأنها سيارة صديقى ، والنار تلتهمها وهى مقلوبة على أحد جانبيها.  ماذا فعل الصديق ؟

أسرعت كالمجنون أحاول إخراجه من السيارة المشتعلة ، لقد رأى شئ أذهله، يا ترى ما هو ؟

قال: وجدت نصف جسده قد تفحم تماماً ، ولكن كان ما يزال على قيد الحياة فنقلته إلى الأرض – وبعد دقيقة فتح عينه وأخذ يهذى: النار النار ، فقررت أن أحمله بسيارتى وأسرع به إلى المستشفى ، ولكنه قال بصوت باكي:لا فائدة لن أصل. فخنقتنى الدموعُ ، وأنا أرى صديقى يموت أمامى – وفجأة فوجئت به يصرخ:  ماذا أقول له ؟  وسألته من هو ؟  قال:  الله.

قال راوى هذه القصة:  أحسستُ بالرعب فى جسدى ومشاعرى.

وفجأة أطلق صديقى صرخة مدوية ، ولفظ آخر أنفاسه.

ومضت الأيام ، لكن صورة صديقى الراحل ، وهو يصرخ والنار تأكله: ماذا أقول له ؟  ماذا أقول له ؟

ووجدت نفسى أتسآءل:  وأنا ماذا أقول له ؟  وبكيت وإنتابتنى رعشةُ غريبة وفى نفس الوقت سمعتُ المؤذن ينادى لصلاة الفجر – الله أكبر –فأحسست أنه نداءُ خاص بى– يدعونى لإُسدل استار على فترة مظلمة من حياتى –يدعونى إلى طريق االنور والهداية.

فاغتسلتُ وتوضأت وطهرت جسدى من الرذيلة التى غرقتُ فيها لسنوات ، وأديتُ الصلاة ، ومن يومها لم تفتنى فريضة.

هذه القصة من كتاب (للشباب فقط) لعادل بن محمد العبد  نقلاً عن رسالة: أخى الشاب إلى أين تسير (10 – 12).

ثانياً:  توبة شابين فى المطار على يد أحد المشايخ:

لمح أحد الشيوخ شابين فى العشرين من عمرهما أو تزيد قليلاً فى المطار ، مسافرين إلى بلد من البلاد التى يسافر إليها الشباب للمتعة المحرمة.

استوقف الشيخُ الشابين بعد أن ألقى عليهما التحية ، ووجه إليهما نصيحة مؤثرة وموعظة بليغة:

(1)          ما ظنكما لو حدث خلل فى الطائرة ولقيتما – لا قدر الله – حتفكما وأنتما على هذه النية قد عزمتما على مبارزة الجبار عز وجل ، فبأى وجه ستقابلان ربكُما يوم القيامة ؟

بكيا , ورق قلباهما لموعظة الشيخ – وقاما على الفور بتمزيق تذاكر السفر ، وقالا:  ياشيخ كذبنا على أهلينا ، وقلنا لهم: إننا ذاهبان إلى مكة أو جدة فكيف االخلاص ؟  وماذا نقول لهم ؟

وكان مع الشيخ أحدُ طلابه ، فقال الشيخ: اذهبا مع أخيكما هذا وسوف يتولى إصلاح شأنكما.

ومضى الشابان مع صاحبهما وقد عزما على أن يبيتا عنده أسبوع كاملاً، ومن ثم يعودا إلى أهليهما.

وفى تلك الليلة وفى بيت ذلك الشاب تلميذ الشيخ ألقى أحد الدعاة كلمة مؤثرة زادت من حماسهما ، وبعدها عزم الشابان على الذهاب إلى مكة لأداء العمرة.

وهكذا أرادا شيئاً وأراد الله شيئاً آخر ، فكان ما أراده الله عز وجل).

وفى الصباح ، وبعد أن أدى الجميعُ صلاة الفجر ، انطلق الثلاثة صوب مكة – شرفها الله – بعد أن أحرموا.

وفى الطريق (1) كانت النهاية ! (2) وفى الطريق كانت الخاتمة  (3) وفى الطريق كان الإنتقال إلى البرزخ (وهو المتصل بين الدنيا والآخرة).

يا ترى ما الذى حدث ؟  فقد وقع لهم حادثُ مروع ذهبوا جميعاً فإختلطت دمآؤهم الزكية بحطام الزجاج المتناثر – ولفظوا أنفاسهم الأخيرة وهم يرددون تلك الكلمات الخالدة: لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، كما كان بين موتهما وبين تمزيق تذاكر سفرهما لتلك البلاد المشبوهة ؟(.سواد الليل.)

اترك تعليقاً