الراحمون يرحمهم الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم

       الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.

أما بعد،،،،،،

          عن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال:  (الراحمون يرحمهم الرحمن ، أرحموا من في الأرض يرحكمك من في السمآء ، الرحم شجُنةُ من الرحمن ، فمن وصلها وصله الله ، ومن قطعها قطعه الله).

                                      أخرجه الترمذي رقم 1935 في البر والصلة

          فمحمد – صلى الله عليه وسلم – كما نعلم ونعتقد – رسول حكيم رءوف رحيم ، قد تفجرت من قلبه الزكى السليم ينابيع الرحمة ، فسالت أودية بقدرها في قلوب المؤمنين المخلصين ، فعاشوا بها يتراحمون فيما بينهم تحت مظلة الإيمان متآخين متحابين ، يجتمعون على حب الله – تبارك وتعالى – ويتفرقون عليه ، فكانوا مثلاْ لا مثيل له في تطبيق الشريعة السمحة التى جآء بها هذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه.

          والرحمة هي الأصل الأصيل لهذا الدين الحنيف ، وهي كلمة واسعة الدلالة لا تقتصر على رقة القلب ولين الجانب كما يتصور بعض من لا خبرة لهم بلغة الشرع.

          الرحمة هي أخت العدل ، تلازمه ، ويلازمها ، لا ينفك أحدهما عن الآخر.  فبالعدل قامت السموات والأرض ، وبالرحمة يسود الحبُ والوفاء والأمن والرخاء.

          إن الرحمة والعدل إذا بقى أحدهما بقى الآخر ، وإذا ذهب أحدهما ذهب الآخر بالضرورة ، فلا عدل بلا رحمة ، ولا رحمة بلا عدل.

          قول الرسول – صلى الله عليه وسلم :  (الراحمون يرحمهم الرحمن).

          الراحمون – من هم على وجه الحقيقة؟.

          الراحمون وصف لموصوف من رجال ونسىء تأصل فيه الرحمة بحيث صار علماً عليه.

بمعنى:  أن الراحم هو الذى من شأنه الرحمة ، لا تفارقه ولا يفارقها – فلا يقال لمن رحم مرة هو رحيم أو هو راحم.

الرحمة:  رقة القلب ، لين الجانب – العطف – الحنان – والبر والصلة.

          أما قوله – صلى الله عليه وسلم:  (يرحمهم الرحمن).

          فالرحمن هو العلم الثاني للذات العلية ، ومعناه صاحب الرحمة التى وسعت كل شئ، وما دام هو كذلك فإن رحمته بالرحماء تكون عظيمة موصولة لا تنقطع ، فهو يرحم الراحمون ما داموا متصفين بهذا الوصف (الرحمة).

          وكلمة (يرحمهم) فعل مضارع يدل على التجديد والحدوث والإستمرار.

          نجد أن الرسول – صلوات الله وسلامه عليه بليغ ، يعبر عن المعاني بأسلوب يشع منه نور النبوة ، فقد آثر التعبير (الرحمن) ليشعر المؤمن من خلال ذكره بأنه أمام فيض لا ينقطع من الرحمة التى لا منتهى لأصولها وفروعها.

          فلو قال:  (الراحمون يرحمهم الله) لكان صواباً ، ولكنه لا يوحي بالمعنى الذى يريد الرسول – أن يعمقه في نفوس المؤمنين.

          وتأمل قول الرجل الصالح الذى في سورة يس (20 – 27) الذى جآء من أقصى المدينة يسعى قال: (إن يُردن الرحمنُ بضُر) فإنه يوحي بأن الرحمن لا يريد الضر أبداً ، ولا يأمر به ، ولا يليق به – جل شأنه – مع المؤمنين بالذات ، فهو (الله) رحمن واسع الرحمة.

          فهذا الرجل – وهو حبيب النجار – كان رحيماً بقومه ، يريد لهم الهدى ويرجوا لهم الدار الآخرة، فكيف يريده الله بالضُر ، ولكنه داعية ينتقي من العبارات ما تحيا بها النفوس

المريضة ، وترق لها القلوب القاسية.

          وتدبر هذه الآيات لتعرف أن الأسلوب القرآني معجز لا يقبل التحدى ، ولنعلم من خلال ذلك العلم أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد حاكى القرآن في أسلوبه ، فكان أسلوب الرسول معجزاً أيضاً ، لكن دون إعجاز القرآن:  (أقل من القرآن إعجازاً).

          وقد أوتى الرسول – صلى الله عليه وسلم – جوامع الكلم خصوصية له ، فضله الله بها على جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

          وقوله – صلى الله عليه وسلم:  (أرحموا من في الأرض يرحمكم من في السمآء).

          استجلاب لعواطف المؤمنين ، واستدرار لحنانهم على إخوانهم ، كما وصفهم الله تعالى في سورة الفتح الآية (29):

          (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ).

          فهو تذكير بالرحمة ، والحرص على زيادتها ونموها.

          ولقد وصف الله الأنصار – رضوان الله عليهم – بأنهم بلغوا فيه الغاية مع إخوانهم المهاجرين في سورة الحشر الآية (9):

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

          وينبغي أن نعلم أن هذا الخطاب النبوى ليس قاصراً على المؤمنين ، ولكنه خطاب عام ينتفع به المسلمون وغير المسلمين ممن لهم دين سماوي ، فالرحمة أصل من أصول الدين الذى أرتضاه الله لعباده ، وفطرهم عليه.          (الراحمون يرحمهم الرحمن)

          فهو خطاب للمؤمنين بالأصالة ولغيرهم بالتبعية ، ليعلم كل من له دين سماوي أن محمداً – عليه الصلاة والسلام – جآء متمماً للرسالات السماوية ومؤيداً لها ، وتميزت شريعته الغراء بالسماحة ، واليسر والرحمة ، والعدالة المطلقة ، والمساواة التامة بين الناس في الحقوق العامة ، فهو رسول الرحمة والسلام.

          وقوله – صلى الله عليه وسلم – في ختام الحديث:   (الرحم شجنةُ من الرحمن فمن وصلها وصله الله ، ومن قطعها قطعه الله).

          يفيد أن أولى الناس بالرحمة هم الأرحام ، فهو من باب التنبيه على وجوب العناية بهم وإسداء الخير لهم – ورعاية حقوقهم والمبالغة في برهم والإحسان إليهم – والعطف عليهم ، وتحمل ما يصدر عنهم من أذى بصبر وجلد.

          والرحم وثيقة الصلة بالله – عز وجل – فهى شجنةُ من الرحمن.

والشجنةُ:  القرابة المشتبكة كاشتباك العروق ، كما قال:  ابن الاثير والمعنى أنها أثر من آثار الرحمة ، فالقاطع لها منقطع من رحمة الله تعالى.

          وجعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – الرحم موصولة بالرحمن لأنها مشتقة من اسمه – فمن وصلها بالبر والإحسان وصله الله ببره وإحسانه ، ومن قطعها قطعه الله عن رحمته وبره وإحسانه.

          وهذا تهديد شديد ، ووعيد قاس يخشاه من كان في قلبه ذرة من إيمان فكيف بالمؤمنين الأقوياء.

          رحمة الله إذاً لا ينالها إلا الرحماء مصداقاً لقوله تعالى في سورة الأعراف (156):

(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ).

          فلابد من أن يسلك الناس طريق الهدى ويتبعون الرسول في كل ما أمرهم به ، ويتجنبون كل ما نهاهم عنه ، وحذرهم من عاقبته.

          فالمؤمنون هم الرحماء قد هذب الإيمان طباعهم ، وزكى نفوسهم ، وقوى أخلاقهم وهون عليهم الدنيا ، ورغبهم في الآخرة.

          (الرحم شجنةُ من الرحمن فمن وصلها وصله الله ، ومن قطعها قطعه الله).

          فالرسول – صلى الله عليه وسلم – بقوله هذا يدعو إلى واجب من أعظم الواجبات الإجتماعية لماذا؟

          لأن الفرد لبنة في بناء الأسرة ، والأسرة لبنة في بناء المجتمع ، وبصلاح الفرد تصلح الأسرة ، وبصلاح الأسرة يصلح المجتمع.

          وما سميت الأسرة أسرة إلا لإرتباطها وتعاونها وإنتمائها فهي مأخوذة من الأسر ، وهو الشدُ بالحبل – فكل واحد من أفراد الأسرة مشدود إلى الآخر ، مرتبط به – مشارك له فى آلامه وآماله رضى بذلك أم لم يرضى.

          مصداقاً لقوله تعالى في سورة الإنسان الآية (28):

          (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ).

          أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق.

          وعليه نفهم معنى الرحم ، فنقول:  هي كل مجتمع تجمعهم صلة النسب أو المصاهرة ولو من بعيد.

          وتوسع الحنفية ومن نحا نحوهم فقالوا:  أبناء القرية في المدينة رحم ، وأبناء القطر في قطر آخر رحم ، والعرب في بلاد العجم رحم ، والمسلمون في بلاد غير المسلمين رحم.

          وهذا التوسع محمود على كل حال ، غير أن الرحم لفظ إذا أطلق أُريد به أولاً القرابة من جهة النسب أو المصاهرة قربت أو بعدت.

          ويرى علماء الإجتماع أن الأسرة لها معنى يضيق ويتسع ، فيقتصر على الأبوين ثم يتعداهما إلى الأولاد ، ثم إلى الأخوة والأعمام إلى آخره ، ثم يتسع فيقال أسرة المدرسة ، وأسرة النادي ، ثم يتسع حتى يشمل الإنسانية كلها ، فيقال الأسرة الإنسانية,

          وهذا المعنى الواسع هو التآخي في أسمى مظاهره ، وأرقى معاينة ، وقد عبر عنه النبى – صلى الله عليه وسلم بقوله:  (كلكم لآدم ، وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).

          وهو تفسير لقوله تعالى في سورة الحجرات الآية (13):

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

 

((  والحمدلله رب العالمين  ))

 

 

 

اترك تعليقاً