سورة الكهف (1)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

      الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى فى كل وقت وحين ، وفى كل ملة ودين ، وفى العالمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهى السورة التى بلغ من فضلها أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حث على قراءتها أو حفظها أو حفظ آيات منها وأن تُتلى ليلة الجمعة أو يوم الجمعة ، وأخبر الصادق الأمين بأن هذه السورة إذا تُليت أو تُلى منها عشر آيات أو حفظ منها عشر آيات ليلة الجمعة أو يومها أثمرت وأنتجت وأفادت:  (1) يسطع لصاحبها نورمن تحت قدمه إلى عنان السمآء ، (2) يسطع له نوريمشى به يوم القيامة على الصراط ، (3) يغفر له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاث أيام ، (4) يسطع له نور ما بين البيت الذى قرأ فيه والبيت العتيق (المسجد الحرام).

وقال سمرة بن جندب قال الرسول – صلى الله عليه وسلم: (من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظاً لم تضره فتنة الدجال) ، (ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة) أخرجه ابن كثير ج 3 / 70.

سورة الكهف عبارة عن عشر آيات بعد المائة منها 71 آية تُكون خمس قصص من القصص العالى السامى الهادف الذى يربى الأمة ويعطيها المثل العليا – (قصة أصحاب الكهف – صاحب الجنتين – إبليس مع آدم – الخضر مع موسى – وأخيراً ذى القرنين).

والثلث الباقى (39 آية الأخرى) عبارة عن تعليق وتعقيب وتميز على القصص الخمس.

فى البدء:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا…) سورة الكهف الآية (1).

وفى الختام:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا……) سورة الكهف الآية (110).

وهكذا يتساوى البدء والختام فى إعلان الوحدانية وإنكار الشرك ، إنه تعالى يحمد نفسه المقدسة ، عند فواتح الأمور وخواتمها ،فإنه المحمود على كل حال ، وله الحمد فى الأولى والآخرة ، ولهذا أحمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز الفخم الضخم العظيم على رسوله الكريم ، محمد صلوات الله وسلامه عليه.

فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض ، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى انور، حيث جعله كتاباً مستقيماً لا إعوجاج فيه ولا زيغ ، بل يهدى إلى صراط مستقيم ، واضحاً بيناً جلياً ، نذيراً للكافرين بشيراً للمؤمنين.  (تفسير ابن كثير).

ماهو سبب نزول هذه السورة الكريمة؟

       عن ابن عباس قال:  بعثت قريش (النضر بن الحارث) (وعقبة بن أبى معيط) إلى أحبار يهود المدينة ، وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا (عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم) فقال أحبار اليهود لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبى مرسل ، وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم ، (1) سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ، (2) سلوه عن رجل طواف ، بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، (3)وسلوه عن الروح ما هى؟  فإن أخبركم بذلك فهو نبى فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا فى أمره ما بدا لكم.

ويقول الله عز وجل فى ابتداء السورة:

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا(1)قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا(2)مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا(3).

أخبر الله تعالى بأنه المستحق للحمد ، وأن الحمدلله والسبب فى هذا الحمد هو إنزاله على عبده ورسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – الكتاب الفخم العظيم وهو القرآن الكريم (أعظم النعم فى الوجود هو القرآن) أجمل كتاب وأحسن كتاب.

الثناء الكامل مع التعظيم والإجلال لله الذى أنزل على رسوله القرآن نعمة عليه وعلى سائر الخلق ونفى عنه العوج ونفى عنه الإلتواء والعيب والنقص وهو (قيماً) قائم بكل ما يلزم الفرد والمجموع والمجتمع والدول من أسباب السعادة ، أى أن الناس لو رعوا هذا القرآن وآدابه لما كان أسعد منهم أحد فى هذه الحياة.

هذا الكمال المنزه عن العيب من أجل أى هدف يارب؟

ليكون إنذار وإبشار ، ينذر العصاة ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بما يسرهم ويفرح قلوبهم وهو أن لهم عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، مقيمين فى ذلك النعيم الذى لا إنتهاء له ولا إنقضاء.

(وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا(4)مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا(5).

هنا يخوف أُولئك الكافرين الذين نسبوا لله الولد مثل النصارى (1) (المسيح بن الله)، (2) اليهود (عُزيز بن الله) ، (3) وبعض مشركى العرب كانوا ينسبون إلى الله الأولاد ، وقالوا: نعبد الملائكة لأنهم بنات الله.  والقرآن رد عليهم:

(إن الذين لا يُؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى) ليس عندهم بذلك الإفتراء الشنيع شئ من العلم ولا لأسلافهم الذين كانوا قدوة لهم  فتاهوا جميعاً فى صحراء الجهالة والضلالة عظمت تلك المقالة الشنيعة (اتخذ الله ولداً) كلمة قبيحة ما أشنعها وأفظعها؟  خرجت من أفواه أولئك المجرمين ، وهى فى غاية الفساد والبطلان ، ما يقولن إلا كذباً وسفهاً وزوراً.

وهنا استدارت الآيات إلى محمد سيد الكائنات حيث يقول الله له:

(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) الآية (6).

يعاتب الله تعالى رسوله ويخفف عنه من الحزن على عدم إيمان قومه حيث يقول له: يامحمد أنت قاتل نفسك ومهلكها غماً وحزناً على توليهم وإعراضهم عن الإيمان – فما يستحق هؤلاء أن تحزن وتأسف عليهم.

نحن جعلنا ما على الأرض من زخارف ورياش ومتاع وذهب وفضة وطائرات وسيارات وغيرها زينة للأرض كما زينا السمآء بالكواكب لنختبر الناس أيهم أطوع لله وأحسن عملاً لآخرته.  وسنجعل ما عليها من الزينة والنعيم حطاماً وركاماً حتى تصبح كالأرض الجرداء التى لا نبات فيها ولا حياة بعد أن كانت خضراء مبهجة.

(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا(7)وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا(8).

قال القرطبى:

هذه الآية وردت لتسلية النبى – صلى الله عليه وسلم – حيث يقول له: لا تهتم يامحمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك إمتحاناً وأختباراً لأهلها فمنهم من يتدبر ويؤمن ومنهم من يكفر ، ثم إن يوم القيامة قريب ، فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا سنجازيهم.

ربنا سبحانه وتعالى أعطانا هذه الزينة لكى يرى من الذى سوف ينشغل بالزينة عن المزين (الله)أو الذى ينشغل بالمزين ولا يغتر بهذا النعيم.

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا)(9).

لا تظن يا محمد أن قصة أهل الكهف – على غرابتها – هى أعجبُ آيات الله ، فى صفحات هذا الكون من العجائب والغرائب ما يفوق أصحاب الكهف.

فقصة أصحاب الكهف ورقادهم ثم بعثهم الله هذه ليست بأعجب آية فمُلك الله مملوء بالآيات والعجائب.

أم حسبت:  هذا اسمه استفهام إنكارى.   الكهف والرقيم كلمتان –الكهف:  غار يشبه غار النبى – صلى الله عليه وسلم

والقرآن لم يتعرض إلى زمانه ولا مكانه ولا لأسمآء الفتية ، إنما القرآن يهدف إلى العبرة ، ولا يشغل الناس لا بالمكان ولا بالزمان بإعتبار أن القرآن كتاب الخلود والوجود والدوام.

فلنقتصر على ما أقتصر عليه القرآن.

منذ مدة قصيرة أعلنت الأردن (هيئة الآثار فيها) إنهم عثروا على كهف فى جنوب الأردن فى بلدة تسمى الرجيم ورجحوا أنه هو الكهف المذكور فى القرآن.  الرقيم: هو اللوح الذى كُتب عليه أسمآء الفتية.

فكون أنهم يعثروا عليهم الآن فدل على أن القرآن هو القرآن أنزله الحكيم الديان.

وخلاصة قصة أصحاب الكهف كما ذكرها المفسرون أن ملكاً جباراً يسمى (دقيانوس) ظهر على بلدة من بلاد الروم (طرطوس أو طرسوس) ، وكان يدعو الناس إلى عبادة الأصنام ويقتل كل مؤمن لا يستجيب لدعوته الضالة ، فلما رأى الفتية ذلك حزنوا حزناً شديداً وبلغ خبرهم الملك الجبار فبعث فى طلبهم توعدهم بالقتل إن لم يعبدوا الأوثان، فوقفوا فى وجهه وأظهروا إيمانهم وقالوا:

 (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا) 

       فقال لهم: إنكم فتيان حديثة السن وقد أخرتكم إلى الغد لنرى رأيكم ، قالوا: لو مكثنا قتلنا وأنطفأت أنوار الله ، فهربوا ليلاً ومروا براع معه كلب فتبعهم فلما كان الصباح آووا إلى الكهف ، وتبعهم الملك وجنده فلما وصلوا إلى الكهف خاف الرجال وفزعوا من الدخول عليهم فقال الملك: سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً ، وألقى الله على أهل الكهف النوم لا يدرون ثلاثمائة وتسع سنين (309) ، ثم أيقظهم الله وظنوا أنهم أقاموا يوماً أو بعض يوم ، وشعروا بالجوع فبعثوا أحدهم ليشترى لهم طعاماً وطلبوا منه التخفى والحذر فسار حتى وصل البلدة فوجد معالمها قد تغيرت ولم يعرف أحد من أهلها ، فقال فى  نفسه: لعلى أخطأت الطريق إلى البلدة ثم اشترى طعاماً ولما دفع النقود للبائع جعل يقلبها فى يده ويقول: من أين حصلت على هذه النقود؟  واجتمع الناس وأخذوا ينظرون لتلك النقود ويعجبون ، ثم قالوا: من أنت يا فتى لعلك وجدت كنزاً؟  فقال: لا والله ما وجدت كنزاً إنها دراهم قومى ، قالوا له: إنها من عهد بعيد ومن زمن الملك (دقيانوس) قال: وما فعل دقيانوس؟  قالوا: مات منذ قرون عديدة ، قال: والله ما يصدقنى أحد بما أقوله: لقد كنا فتية وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان فهربنا منه عشية أمس فأوينا إلى الكهف فأرسلنى أصحابى اليوم لأشترى لهم طعاماً ، فتعجبوا من كلامه ورفعوا أمره إلى الملك – وكان مؤمناً صالحاً – فلما سمع خبره خرج الملك والجند وأهل البلدة وحين وصلوا إلى الغار سمعوا أصحاب الكهف الأصوات وجلبة الخيل فظنوا أنهم رسل دقيانوس – فقاموا إلى الصلاة فدخل الملك عليهم فرآهم يصلون فلما انتهوا من صلاتهم عانقهم الملك وأخبرهم أنه رجل مؤمن وأن دقيانوس قد هلك من زمن بعيد وسمع كلامهم وقصتهم وعرف أن الله بعثهم ليكون أمرهم آية للناس ثم أُلقى عليهم النوم وقبض أرواحهم فقال الناس: لنتخذن عليهم مسجداً.

ويقول االشيخ سيد قطب فى ظلال القرآن:

(وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحاً صريحاً حاسماً ، لا تردد فيه ولا تلعثم ، إنهم فتية أشداء فى أجسامهم ، أشداء فى إيمانهم ، أشداء فى استنكار ما عليه قومهم ، ولابد من الفرار بالعقيدة.  إنهم فتية تبين لهم الهدى فى وسط ظالم كافر ، ولا حياة لهم فى هذا الوسط؟  وإن أمرهم قد كشف ، فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم ثم يأوون إلى الكهف الضيق المظلم يسترحون فيه برحمة الله ، فإذا الكهف فسيح تنتشر فيه الرحمة وتمتد ظلالها فتشملهم بالرفق والرخاء واللين).

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) الكهف(10).

هو الكهف الضيق فيه رحمة؟  أنتم تركتم الشمس والهواء والنعيم والملك الواسع وأنتم ولاد كبراء البلد – وهذا يدل على أن المؤمن رحمته فى إيمانه.

كلمة فتية:

       أنهم صغار شباب ، وهذه إشارة من الله أن الشباب محل النظر – معقود عليه الأمل – ودعوا وقالوا: يارب أجعل العواقب خير ، وهذه مسألة مهمة جداً على كل من يتحرك حركة إلى عمل إيجابى أو سلبى أن يستخير الله. (بقول):

(اللهم أحسن عاقبتنا فى الأمور كلها وأجرنا من خزى الدنيا وعذاب الآخرة ، الله خر لى وأختر لى – اللهم إنى جاهل فعلمنى – وفقير فأغننى – وعاجز فمكنى – وضعيف فقوى برضاك ضعفى – اللهم إنى حائر فأرشدنى – ومهين فأكرمنى – وذليل فأعزنى).

تواضع منك إلى الله (وأفوضى أمرى إلى الله) ومن تواضع لله رفعه الله ، أذكر يامحمد حين التجأ الشباب إلى الغار فى الجبل وجعلوه مأواهم دعوا الله عز وجل – اللهم أعطنا من خزائن رحمتك الخاصة مغفرة ورزقاً ، وأصلح أمرنا كله واجعلنا من الراشدين المهتدين.

ما الفرق بين غار أهل االكهف وغار محمد – صلى الله عليه وسلم؟

فرق كبير بين غار أهل الكهف وبين غار النبى – صلى الله عليه وسلم – كان كهف الفتية كهفاً للهرب بعقيدتهم من الفتنة ، إنما غار النبى – صلى الله عليه وسلم – ليس هرباً ولكن كان مجرد إيواء للإنطلاق بعده لتبليغ دعوة الله.

(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا)(11).

وهذا أعظم تعبير فى الرقاد والنوم ، والضرب على الأذان هو النوم – غالباً طول ما الإنسان يسمع أصواتاً لا ينام ، السمع هو بداية النوم وهو نهايته (ألقينا عليهم النوم فى الغار سنين):

(ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا)(12).

ثم أيقظناهم من بعد نومهم الطويل لنرى أى الفريقين أدق إحصاءً للمدة التى ناموها فى الكهف؟ – وقال مجاهد (صحابى جليل) الحزبان من اصحاب الكهف لما استيقظوا اختلفوا فى المدة التى لبثوها فى الكهف فقال بعضهم:  يوماً أو بعض يوم وقال آخرون: ربكم أعلم بما لبثتم.

نحن نقص عليك يا محمد خبرهم العجيب على وجه الصدق دون زيادة ولا نقصان:

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)(13).

إنهم جماعة من الشبان ءامنوا بالله فثبتناهم على الدين وزدناهم يقيناً ، وقوينا عزمهم وألهمناهم الصبر حتى أصبحت قلوبم ثابتة راسخة ، مطمئنة إلى الحق معتزة بالإيمان ، وحين قاموا بين يدى الملك الكافر الجبار من غير مبالاة فقالوا: ربنا هو خالق السموات والأرض لا تدعونا إليه من عبادة الأوثان والأصنام ، ولن نشرك معه غيره فهو واحد بلا شريك ، ولئن عبدنا غيره نكون قد تجاوزنا الحق ، وأفرطنا فى الظلم والضلال.

مصداقاً لقوله تعالى: الآية (14):

(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا).

والربط هنا:  (هو الثبات والشدة لا يتزحزحوا مرة ثانية تحت أى ظرف.

إذ قاموا فقالوا:  هذا إعلان العقيدة. (بعض الناس يؤثرون العقيدة على أعز ما يملكون).  وبعد القيام من النوم قالوا: هؤلاء أهل بلدنا عبدوا الأصنام تقليداً من غير حجة، لو يأتوننا ببرهان ظاهر ، وأفظع شئ أن تكذب على الله بنسبة الشريك إليه.

(هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)

ثم يقص الله تعالى بأنهم اعتزلوا قومهم وما يعبدون من الأوثان غير الله تعالى – ثم التجؤوا إلى الكهف فبسط الله لهم ووسع عليهم برحمته ويسهل لهم أبواب الرزق من غداء وعشاء فى هذا الغار.

ونجد أن إذا طلعت الشمس تميل عن كهفهم جهة اليمين وإذا غربت تُبعد عنهم جهة الشمال – والغرض أن الشمس لا تُصيبهم عند طلوعها ولا عند غروبها كرامة لهم من الله لئلا تؤذيهم بحرها ، وذلك الصنع من دلائل قدرة الله الباهرة.

قال ابن عباس:

       (لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم ، ولو أنهم لا يقلبون لأكلتهم الأرض) الطبرى جزء 15 صـ 211.

مصداقاً لقوله تعالى الآية (17):

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) 

ولو رأيتهم أيها الناظر لظنتهم أيقاظاً لتفتح عيونهم وتقلبهم والحال أنهم نيام (جعل الله أعينهم مفتوحة لكى يخاف من يراهم فلا يؤذوهم).

ونقلبهم من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض أجسامهم – وكلبهم الذى تبعهم باسط يديه بفناء الكهف كأنه يحرسهم ، جعله الله كشأن الكلب الحى (ونجد أن الكلب لم يدخل معهم – لأنهم هؤلاء الفتية ءامنوا بربهم وماداموا ءامنوا فالملائكة تحرصهم وتزورهم ، والملائكة لا تدخل مكان فيه كلب.  فقد ثبت أن الرسول واعده جبريل ولم يأتى فى الميعاد.  فخرج الرسول فوجد جبريل عليه السلام واقف خارج الحجرة فسأله؟  فقال له: (نحن معشر الملائكة لا ندخل بيت يه كلب أو صورة وأنت عندك جارو (كلب صغير) فوجدالنبى – صلى الله عليه وسلم – الكلب فأمر عائشة – رضى الله عنها – أن تخرجه وأن تغسل مكانه ، وهنا دخل جبريل عليه السلام.

مصداقاً لقوله تعالى الآية (18):

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا)

وهنا الخطاب لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو أشجع الشجعان لو شاهدتهم وهم على تلك الحالة لفررت منهم هارباً رعباً منهم ، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة ، فهم يتقلبون ولا يستيقظون.

وكما أنامهم الله بعثهم من النوم وأيقظهم بعد تلك الرقدة الطويلة التى تشبه الموت ليسأل بعضهم بعضاً عن مدة مكثهم وإقامتهم فى الغار ، قال المفسرون:  إنهم دخلوا فى الكهف صباحاً وبعثهم الله فى آخر النهار فلما استيقظوا ظنوا أن الشمس قد غربت فقالوا لبثنا يوماً ، ثم رأوها لم تغرب فقالوا بعض يوم ، وما يدروا أنهم ناموا ثلاثمائة وتسع سنين.  قال بعضهم الله أعلم بمدة إقامتنا ولا طائل من وراء البحث عنها فخذوا بماهو أهم وأنفع لكم فنحن الآن جياع.

فليختر لنا أحل وأطيب الطعام فليشتري لنا منه (أجود وأطهر طعام) وليتلطف فى دخول المدينة وشراء الطعام حتى لا يشعر بأمرنا أحد , إن يظفروا بنا يقتلونا بالحجارة أو يردونا إلى دينهم الباطل ، وإن عدتم إلى دينهم ووافقتموهم على كفرهم فلن تفوزوا بخير أبداً ، وهكذا يتناجى الفتية فيما بينهم خائفين حاذرين أن يظهر عليهم الملك الجبار فيقتلهم أو يردهم إلى عبادة الأوثان فيوصون صاحبهم بأخذ الحيطة والحذر.

مصداقاً لقوله تعالى الآية (19 ، 20):

(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا(19)إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا(20).

وكما بعثهم من نومهم كذلك أطلع الله الناس عليهم ليستدلوا بذلك على صحة البعث ويوقنوا أن القيامة لا شك فيها ، فتكون قصة أصحاب الكهف حجة واضحة ودلالة قاطعة على إمكان البعث والنشور فإن القادر على بعث أهل الكهف بعد نومهم قادر على بعث الخلق بعد مماتهم ثم قبض الله أرواحهم (موت حقيقى).

تنازع القوم فى أمر أهل الكهف قال بعض الناس: ابنوا على باب كهفهم بنياناً ليكون علماً عليهم ، قال الفريق الثانى وهم الأكثرية الغالبة:  لنتخذن على باب الكهف مسجداً نصلى فيه ونعبد الله فيه.

كلمة مسجد فى اللغة العربية:  هو أى مكان يُعد للعبادة.

مصداقاً لقوله تعالى الآية (21):

(وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا)(21).

سيقول الناس فى قصة أصحاب الكهف فى عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – من أهل الكتاب هم ثلاثة يتبعهم كلهم ، البعض: إنهم خمسة سادسهم الكلب بالظن من غير يقين ، ويقول البعض إنهم سبعة والثامن هو الكلب ولكن الله هو أعلم بحقيقة عددهم ولا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس.

قال ابن عباس – رضى الله عنه:  أنا من ذلك القليل.

قال المفسرون:  إن الله تعالى لما ذكر القول الأول والثانى أردفه بقوله: (رجماً بالغيب) ثم نبه الله رسوله إلى الأفضل والأكمل وهو ردُ العلم إلى علام الغيوب.

ولا تقولن لأمر عزمت عليه إن سأفعله غداً إلا إذا قرنته بالمشيئة فقلت إن شاء الله، وإذا نسيت أن تقول إن شآء الله ثم تذكرت فقلها لتبقى نفسك مستشعرة عظمة الله ، ولعل الله يوفقك ويرشدك إلى ما هو اصلح من أمر دينك ودنياك.

واختلف فى أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا ، أو هم نيام وأجسادهم محفوظة كما جآء فى (تفسير الجامع لأحكام القرآن).

فروى عن ابن عباس أنه مر بالشام فى بعض غزواته مع ناس على موضع الكهف فمشى الناس معه إليه فوجدوا عظاماً فقالوا:  هذه عظام أهل الكهف ، فقال لهم ابن عباس: أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة ، فسمعه راهب فقال: (ما كنت أحسب أن أحداً من العرب يعرف هذا ، فقيل له: هذا ابن عم نبينا – صلى الله عليه وسلم.  (ذكره ابن عطية فى المحرر الوجيز).

وروت فرقة أن النبى – صلى الله عليه وسلم – قال:  (ليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بعد).  ذكره ابن عطية.

( والحمدلله رب العالمين )

اترك تعليقاً