قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

       الحمدلله رب العالمين ، رب الأولين والآخرين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد الصادق الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين .

أما بعد ،،،

          فالمشهور عند أهل السيرة والتاريخ أن إبراهيم عليه السلام ولد بمدينة بابل من بلاد العراق على نهر الفرات جنوب بغداد ، فى بلدة (فدام آرام).

          وإبراهيم من أولى العزم من الرسل وهو أبو الأنبياء.

إسمه:  إبراهيم بن تارح ويسمى آزر – وهو من سلالة سام بن نوح عليه السلام.

          وقد ذكرت قصة إبراهيم فى كتاب الله فى 73 موضع ، وكانت المدة بين إبراهيم ونوح عليهما السلام – تزيد على ثلاثة آلاف سنة (كما ذكر ابن كثير فى كتابه البداية والنهاية).

          وقد نشأ إبراهيم عليه السلام وسط فريقين ضالين ، فريق كانوا يعبدون الأصنام ويتمسحون بها ، ويدعونها رغباً ورهباً ، ويرجون منها جلب الخير ودفع الضر – وفريق كانوا يعبدون الكواكب ويصنعون لها الهياكل ، ويسمونها بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.  ولكنه عليه السلام – كان بمعزل عن هؤلاء وهؤلاء فقد عصمه الله من زلاتهم ومعتقداتهم الفاسدة.

          وإبراهيم هو خليل الرحمن بلا منازع وكان له منزلة كبيرة عند الله تبارك وتعالى ، هذه المنزلة نشأت من سلوك إبراهيم عليه السلام وما قام به فى جنب الله عز وجل ولذلك نجد أن القرآن الكريم ذكره بأوصاف خاصة به عليه السلام فقال عنه ربه فى سورة الأنبياء الآية (51):

         (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ).

          وكذلك قال الله عز وجل فى سورة البقرة الآية (124):

          (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

          ولما بلغ الأربعين بعثه الله رسولا إلى الناس مبشراً ونذيراً وداعياً إليه بإذنه.

          وتحدث القرآن بقول الله: (وإبراهيم الذى وفى).

          فوفى بكل شئ طلبه منه ربه تبارك وتعالى.  وقول الله تعالى :

          (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمتُ لرب العالمين).

          ومن خصوصيات إبراهيم عليه السلام إن الله تبارك وتعالى جعل النبوة والرسالة فى ذريته – فإبراهيم عليه السلام رزقهُ الله بابنين إثنين من صلبه هما إسماعيل من هاجر وإسحاق من سارة ثم تناسلى من ذرية إسحاق أنبياء بنى إسرائيل جميعاً.

          وتناسل من إسماعيل عليه السلام العرب بجميع طوائفهم وكان منه محمد عليه الصلاة والسلام.

          وإبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً وإنما كان حنيفاً مسلماً.  والذى يبين أن إبراهيم عليه السلام كان خليل الله بلا منازع ما جآء عن المولى عز وجل فى الحديث القدسى مخاطباً إبراهيم بقوله سبحانه: (ياإبراهيم لما وهبت قلبك للرحمن وبدنك للنيران وولدك للقربان ومالك للضيفان اتخذناك خليلاً).

          وإبراهيم فاز بهذا اللقب لما قدمه لله من تضحيات ولما فاز فى الإبتلاءات التى ابتلاه مولاه جل جلاله فقد ابتلاه الله فى أبيه فصبر – وابتلاه فى زوجه فصبر – وابتلاه فى نفسه فصير ، وابتلاه فى ابنه فصبر فكان مثال للتضحية والفداء وصدق فيه قول الله تبارك وتعالى: (لقد كان لكم أُسوةُ حسنةُ فى إبراهيم والذى معه).

          فإبراهيم عليه السلام أرسله الله إلى قوم يعبدون الأصنام ، يعبدونها من دون الله الواحد القهار.  ومما زاد الطين بله أن إبراهيم عليه السلام كان أباه وفى رواية أن عمهُ لا يقف عند عبادة الأصنام فحسب بل كان يصنعها ويبيعها للناس وهذا (صعب) من مسئولية إبراهيم عليه السلام فتوجه إلى إبيه أولاً: داعياً له بترك عبادة الأصنام والأوثان والاتجاه إلى عبادة الله تبارك وتعالى ، والقرآن الكريم يحكى ما كان من موقف إبراهيم عليه السلام من أبيه حيث خاطبه بعاطفة البنوة فقال له فى سورة مريم الآية (42 : 45):

(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا(42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا(43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا(44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)(45).

          فقد كرر إبراهيم عليه السلام النداء بلفظ الأبوة أربع مرات وهذا فوق أنه أدب يوجبه حق الأبوة وأدب تقتضيه النبوة.

          ولكن أباهُ قابله بالجحود والعناد وأصر على ما كان منه من عبادته للأصنام فقال له كما حكى القرآن الكريم فى سورة مريم الآية (46):

          (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).

          ولم يعد إبراهيم عليه السلام أباه بالإستغفار له إلا حين رأى منه ميلاً ما إلى أتباعه، والتسليم بدعوته ، فلما رأى أنه لا يؤمن ولا يستجيب بسبب التقليد الأعمى والتعصب الجامح ، والحب الغامر للمال والرياسة – تبرأ منه وعدل عن الإستغفار له كما جاء فى سورة مريم الآية (47):

          (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا).

          وقال تعالى فى سورة التوبة الآية (114):

          (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).

          ثم إتجه إلى قومه – ومعهم أبوه – يدعوهم إلى عبادة الله وحده وقد تلطف بهم إبراهيم عليه السلام فى دعوتهم إلى الله ، فحدثهم عن نفسه وعن عقيدته ، وإتجاهه ، ومنهجه ، وذكرهم بالبعث والنشور وما يلقى فيه المجرمون من خزى ونكال ، وما يلقى فيه أصحاب القلوب السليمة من نعيم مقيم فى جنات النعيم ، وهو أسلوب حكيم يشد إليه النفوس الجامحة ، إنه أسلوب يترك المرء مع نفسه يفكر ويتدبر ويوازن بين حاله وحال من دعاه إلى الهدى بطريق غير مباشر ، ثم يقرر فى هدوء ما يراه ويطمئن إليه ..

          ويقول الله تعالى فى سورة الشعراء الآية (69 : 74):

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ(69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)(74).

          والحوار الثانى  ما جآء فى سورة الأنبياء وقد تميز عن سابقه بالشدة والحدة وإعلان الحرب عليهم ، وعلى أصنامهم ، قال تعالى فى سورة الأنبياء الآية (51 : 55):

(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ(51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ(53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ(54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ)(55).

          وظنوا أنه يستهزءُ بهم فى هذا الأمر ، وقال تعالى فى الآية (56 : 57):

(قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ(56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ)(57).

          فأغتنم إبراهيم الوقت الذى يخرجون فيه يوم عيدهم للنزهة والسياحة فتسلل خفية إلى أصنامهم فحطمها وعلق الفأس على كبيرهم ، لعلهم يسألونه عن الذى حطم أصنامهم ويلومونه على تمكينه من ذلك فلا يجدون له جواباً.  قال تعالى فى الآية (58):

(فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ).

          وأفصحت سورة الصافات عن الطريقة التى سلكها فى التسلل إليها والآلة التى حكمها بها فقال جل شأنه الآية (85 : 93):

(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ(85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ(86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ(88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ(89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ(90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ(91) مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ(92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ)(93).

          لقد كان إبراهيم سقيم من صنعهم وكان عليلاً من عبادتهم للأصنام فلن يكن إبراهيم عليه السلام كاذباً فيما قال لأن الأنبياء لا يكذبون وينبغى أن نعلم أن أول الصفات التى يتصف بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الصدق والأمانة ..  فإذا كان إبراهيم قال لهم إنى سقيم فلم يكن كاذباً فيما أدعى ولكنه كان صادقاً فيما يقول لأنه كان سقيم من صنعهم وعليلاً من فعلهم فلما خلى له الجو بآلهتهم أخذ يكسرها تكسيراً حتى صارت جُذاذاً (قطع صغيرة).

          فأشتدت عداوتهم لهذا النبى الكريم ، وأوصى بعضهم بعضاً بإحراقه نصرة لآلهتهم المهشمة.  وقال الله تعالى فى سورة الصافات الآية (97):

          (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ).

          وجمعوا الحطب من هنا وهناك ، وتقربوا إلى آلهتهم بهذا العمل فاستسلم إبراهيم عليه السلام لله واتجه إليه بقلبه يدعوه بخشوع وضراعة وهو راضى بقضائه ، صابر على بلائه ، فسلب الله النار قوة الإحراق.

          جآء جبريل عليه السلام تنفيذاً لأمر الله.  ولقد قال الله للملائكة إذا استغاث بكم خليلى فأغيثوه.  قال جبريل لإبراهيم: (ألك فى حاجة يا إبراهيم) قال إبراهيم: إما إليك فلا وأما إلى الله فعلمه بحالى يغنى عن سؤالى ، حسبى الله ونعم الوكيل).

وفى رواية:

        أن ملك المطر إستأذن الله تعالى أن ينزل المطر فيطفئ نار إبراهيم ولكن أمر ربنا كان أعجل.

          فكان القرار الإلهى ممن يملك القدرة على الكون كله الذى أمره موكل بين الكاف والنون حيث قال للنار يانار كونى برداً وسلاماً على إبراهيم فسلبت النار خصيتها ولم تحرق من إبراهيم إلا السلاسل والقيود والأغلال وانطفأت النار وإذا إبراهيم جالس يسبح الله كأنه يتنزه فى بستان.

          مصداقاً لقوله تعالى فى سورة الأنبياء الآية (69):

          (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ).

معجـــــزة:

        كونى:  هذه هى الكلمة التى تُكون بها أكوان وتُنشأ بها عوالم ، وتُخلق بها نواميس، كما  جاء فى سورة يس الآية (82):

          (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

          وجآءت الروايات أنه قال: (ما كانت أيام أنعم عندى من الوقت الذى كنتُ فى النار).

          ولما خرج من النار منتصراً بنصر الله ، عزيزاً بعزة الله قوياً بقدرة الله طلب النمرود حاكم البلاد مجادلة إبراهيم نفسه ، وحاجه فى دعوته ، قال له: من ربك.

          قال: ربى الذى يحيى ويميت.  قال النمرود:  أنا أحيى وأميت.  ثم جآء بمستحق الإعدام فعفا عنه ، وببرئ فأعدمه ، وأدرك إبراهيم أن مكابرة النمرود ستدخل فى جدل ونقاش فقال إبراهيم: إن ربى يأتى بالشمس من المشرق ، فإن كنت رباً فأت بها من المغرب ،( فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظالمين )كما قال تعالى فى سورة البقرة الآية (258):

          (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

موقف إبراهيم من عباد الكواكب:

          أن أهل نجران وهى مدينة من مدن الشام كانوا يعبدوا الكواكب والنجوم فتوجه إبراهيم داعياً لهم إلى نبذ عبادة الكواكب والإتجاه إلى الله فهو المعبود بحق ، وكان المنهج الذى تبعه إبراهيم أخذ يتدرج معهم من عبادة كوكب إلى كوكب آخر إستدراجاً لهم حتى يصل من خلال هذا المنهج إلى إبطال عبادة الكواكب التى يعبدها هؤلاء.

          وقد كشف الله لإبراهيم عليه السلام حجب العيب ، وأطلعه على ملكوت السموات والأرض ، ليكون على يقين تام بقدرته وبديع صنعه ، وأحقيته فى التفرد بالعبادة ، وليأخذ مما يراه من البراهين الصادقة ما يؤيده فى دعوته ، قال تعالى فى سورة الأنعام الآية (75):

(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).

          حوار بين إبراهيم وعُباد الكواكب كما سجله القرآن الكريم فى سورة الأنعام الآية (76 : 79):

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(79).

          وهذا الأسلوب الحكيم فى المحاجة والمناظرة ، ينبغى أن يتفطن إليه الدعاة المرشدون ويسيروا على منواله.

          وقضية الموت والبعث هى القضية الأولى فى باب الإيمان ، وهى الثغرة التى تنفذ منها رميات الشيطان إلى قلوب المؤمنين.

          لقد طلب إبراهيم من ربه بأدب وإستحياء أن يريه حالة من حالات إحياء الموتى ، وصورة من صور تركيب الكائنات الحية ليزداد قلبه سكينة على سكينة.  وقد شآء الله عز وجل أن يستجيب لإبراهيم عليه السلام فأراه صورة حية من إحياء الموتى ، قال تعالى فى سورة البقرة الآية (260):

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

          ولما لم يجد إبراهيم عليه السلام من قومه فى بابل إلا صدوداً وإعراضاً عن الحق الذى جآءهم به من ربه – أعد العدة للرحيل عنهم إلى بلاد أخرى لعله يجد فيها من يؤمن به ويسير على نهجه.

          وصحب معه إبنة عمه سارة بنت هاران ، وهاجر معه أبن أخيه لوط عليه السلام كما قال الله تعالى:

       (فآمن له لوط وقال إنى مهاجر إلى ربى إنه هو العزيزُ الحكيم).

          قال النبى – صلى الله عليه وسلم – عن سارة: (ما خُلق على الارض أجمل من سارة إلا حواء).

          فلما هاجر من بابل مر بأرض الشام ثم مر بمصر ، ثم أستقر به المقام بعد ذلك فى الشام كما أخبرنا الله تعالى:

       (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التى باركنا فيها للعالمين).

          والأرض التى بارك الله فيها هى بيت المقدس بالشام.

          ومكث إبراهيم عليه السلام ومن معه ببيت المقدس إلى ما شآء الله ثم أرتحلوا إلى مصر بسبب قحط قد نزل بهذه البلاد وهناك قد حدث لسارة حادث كان محنة أعقبتها منحة.

          وذلك أن جباراً من الجبابرة كان والياً على مصر قد أخبره بعض حاشيته أن رجلاً قدم من الشام ، ومعه امرأة غاية فى الجمال فقال الملك: أئتونى بها فلما جآءوه بها أراد أن ينال منها أكثر من مرة فعصمها الله منه ، وهذا بفضل دعاء سارة: (اللهم إن كنت تعلم أنى أمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجى إلا على زوجى فلا تسلط علىَ الكافر).

          وقد أطلقها فرعون وأكرمها وأرسل معها الذهب والجواهر وكذلك أمة عنده إسمها هاجر ، ورجعت سارة إلى إبراهيم عليه السلام وإذا هو يصلى.  فقال إبراهيم: (ماهيم؟) ماذا حدث؟  فقالت: إن الله سبحانه تسلط على الكافر.  فقال: الحمدلله.

          فعادوا إلى بيت المقدس واستقروا بها. وعاش هناك وكان يدعو إلى الله ويتاجر.  وصارت له الأموال الكثيرة فى فلسطين.

          فلما بلغ من العمر 85 سنة تقريباً ، رأت سارة أنها عاقر لا تلد وكذلك زوجها كبير يشتاق إلى الولد ويتمنى الولد فأهدته هاجر ، فولدت له ولده البكر إسماعيل.

غيرة سارة من هاجر:

         يروى أن النبى – صلى الله عليه وسلم قال:  (إن هاجر كانت تلبس النطاق (ثوب طويل) وتربط وسطها بشئ طويل حتى يمسح أثرها حتى لا تراه سارة) وهذا فى البخارى من شدة غيرة سارة ، تبغى النسآء رغم الإيمان ورغم الفضل الذى كان لسارة إلا إنها غارت من هاجر ، حتى زوجات الرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت عندهن هذه الغيرة.  ويجب على الرجل أن يراعى هذه المسائل عند المرأة.

          ثم أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يخرج بهاجر وولدها إلى مكة ويتركها هناك ليعمر بهما هذا الوادى المبارك ، فأمتثل إبراهيم عليه السلام أمر ربه عز وجل وخرج بهما إلى هناك ، حيث لا ماء ولا زرع ، ثم تركهما وانصرف بعد وداع طويل ومرير.

          رحلات إبراهيم عليه السلام كانت على البراق (الدابة التى كانت يركبها الأنبياء ، ويركب البُراق عندما يكون وحده ، أما لما يكون معه أحد يسافر سفراً عادياً.

          فلما أشرف على الوادى وكاد ينفصل عنه راجعاً إلى الشام دعا ربه بدعوات سجلها له القرآن فى سورة سميت بإسمه (إبراهيم) قال تعالى الآية (35 : 39):

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ(35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء(38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء)(39).

          وقد أستجاب الله سبحانه وتعالى لإبراهيم دعوته فى البلد المحرم ، وجعله آمناً فى الجاهلية وفى الإسلام.

          قال ابن عباس قال النبى – صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم – أو قال: (ولو لم تحيطه – لكانت زمزم عيناً معيناً ولجرت كالنهر) فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك: لا تخافى الضيعة ، فإن هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية.

          وظلت هاجر مع ولدها وحيدين حتى جآءت عليهم رفقه من قبيلة عربية يقال لها جُرُهم ، فطلبوا منها أن يعيشوا بجوارها لينتفعوا بهذا المآء فأذنت لهم وأستأنست بهم ، وترعرع إسماعيل فيهم ، وتزوج منهم وأنجب ذرية كثيرة.

          كبر إسماعيل عليه السلام وشب وترعرع وصار قادراً على العمل يمشى مع أبيه ويشاركه آلامه وآماله ، ويحمل عنه بعض متاعب الحياة.

          وقد رأى إبراهيم فى المنام أن يذبح ولده ، ورؤيا الأنبياء حق وصدق.

محنة إبراهيم مع ابنه البكر:

        هنا وقفه لماذا شاور إبراهيم إبنه اسماعيل؟

          كان يستطيع أن يذهب إلى إبنه إسماعيل وهو نائم فيذبحه – فالمسألة هنا تبين حرص الأب المسلم على أن يشاركه أبنه فى الأجر.

          وهذا معنى جليل للآباء والأمهات إحرصوا على أن يشاركم أبنآؤكم الأجر.

(1)            إذا أردت أن تتصدق ، فتعطى الصدقة لأبنك لكى يضعها فى الصندوق أو فى أيدى السائل.

(2)            إذا حضرت درس أحضر أولادك معك.

فأتى إلى ولده إسماعيل فأخبره بما رأى ليستشيره فى أمر قضاء الله وقدره ولكن ليعرف رأيه ويختبر حلمه وصبره ، وليهيئ نفسه لإستقبال هذه التضحية ، فوجده يسرع إلى إمتثال أمر الله إسراعاً فاق كل تصور ، ويخبره أنه سيكون واحداً من أولئك الصابرين الذين صبروا على البلاء مع شدته إبتغاء وجه الله تعالى ، وطلباً لمرضاته.  وقد سجل الله هذه القصة فى سورة الصافات الآية (99 : 106):

(وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ(99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ(100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ(101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ)(106).

هذا هو أعظم أختبار فى التاريخ ، من منا مستعد أ، يضحى بأبنه الوحيد – والتضحية ليس بالأمر الصريح ولكن بإشارة.

(وفديناهُ بذبح عظيم) سورة الصافات الآية (107).

          سمع إبراهيم النداء فلتفت فإذا جبريل عليه السلام ومعه كبش (خروف) من السمآء قال ابن عباس – رضى الله عنهما: (قد رعى فى الجنة أربعين خريف ، أبيض ، أعين عيناه واسعتان ، أقرن (قرونه كبيرة).

          وسارت سُنة فى أمة الإسلام ، أن يضحوا لله عز وجل عند الكعبة فى كل عام ويضحى معهم المسلمون فى أنحاء الأرض.

بمعنى:  نحن مستعدون يارب أن نضحى بأنفسنا وأبنائنا (الإستسلام لله).

          وكما يقول العلماء:  (يتبع المحنة منحة) ، بعد ما رجع إبراهيم إلى فلسطين أكرمه الله بولده إسحاق من السيدة سارة.

          وكذلك رزق الله إبراهيم عليه السلام إسحاق من السيدة سارة ثم جآءتها بشرى أخرى هى أن الله عز وجل سيعمهم برحمته وينعم عليهم بالمزيد من بركاته.

          فنزل ثلاث من الملائكة يبشرونهم (جبريل ، وميكائيل وملك الموت) وهم فى طريقهم إلى قرية لوط التى أمرهم الله بتدميرها.

          حيث قال الله تعالى فى سورة الذاريات الآية (24 : 26):

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ(24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ(25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)(26).

          وأيضاً يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة هود الآية (69 : 73):

(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ(69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ(70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ(71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ(72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ)(73).

فى هذه الآيات ثلاث بشائر:

(1)            أنها ستلد نبى كريم    (2)  سيمتد بها العمر حتى ترى الولد قد كبر.  

     (3)    سترى ابن أبنها نبى كريم يعقوب.

بناء البيت الحرام (الكعبة):

          لما كبر إسماعيل عليه السلام أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يبنى الحرم بعد أن عرفه مكانه ليكون محجة للناس وأمناً ومقراً للطائفين والعاكفين والركع السجود ، وأمره أن يصحب معه ولده إسماعيل فقاما معاً ببناء هذا البيت بالحجارة ، وهما يضرعان إلى الله تعالى أن يجعلهما مسلمين له ، وأن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة ، وإن يريهما مناسك الحج والعمرة ، وأن يبعث فى أهل مكة ومن حولها رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته.  وفى ذلك يقول الله عز وجل فى سورة البقرة الآية (127):

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

          (وأذن فى البيت بالحج)

          جآء الأمر لإبراهيم (وأذن فى البيت بالحج) فقال إبراهيم: ياربى وما يبلغ صوتى – أُنادى كل الناس فجآء الرد: ياإبراهيم إنما عليك الآذان وعلينا البلاغ وتوجه إبراهيم إلى جبل عرفات وصعد على الجبل وأخذ ينادى الناس أن يحجوا بيت الله الحرام.  واحد ينادى فى صحراء ما يسمعه أحد ولكن تأتى المعجزة الإلهية فبلغ صوته كل الناس فى الأرض ، كل البشر وصلهم الصوت وليس هذا فقط.

المعجزة الأعجب:

          قذف الله فى قلوب الناس حب الكعبة وحب الحج – وبدأ تعظيم البيت الحرام بأمر من الله.

          ثم يقول الله تعالى فى سورة البقرة الآية (127 : 129):

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(129).

          فاستجاب الله لإبراهيم وإسماعيل فبعث النبى العربى محمد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم – وفى هذا يقول النبى الكريم عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبى إبراهيم وبشرى أخى عيسى).

أهم الأهداف والمقاصد من دعوة سيدنا إبراهيم:

          تعلمنا من دعوة إبراهيم دروس كثيرة وعبر نافعة وعظات مفيدة:

أولاًما ينبغى أن يتعلمه الإنسان من الأدب الجم فى مخاطبة الإبن لأبيه برفق وتلطف وأناه لأن الوالد له مقامه واحترامه وهيبته فمهما يكن للأبن من مركز مرموق أو جاه فلا ينبغى أن يتعالى على أبيه ولكن ينبغى أن يستخدم معه الأدب الجم فى مخاطبته وهذا ما صنعه إبراهيم عليه السلام مع أبيه كما ذكرت الآيات القرآنية.

ثانياً:  عدم مقابلة السيئة بالسيئة:

          بل ينبغى للداعى أن يقابل السيئة بالحسنة وهذا درس يجب أن يعيه الداعية إلى الله  وكما فى قصة سيدنا إبراهيم مع أبيه عندما قابله أباه بالجحود والعناد وأصر على ما كان منه من عبادته للأصنام ، ولكن إبراهيم قال له كما وضح القرآن الكريم: (سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفياً).

ثالثاً:  إن الإنسان ينبغى عليه أن يلجأ إلى الله في كل أمر من الأمور ، فإذا حل بالإنسان شدة أو نزل به أمر فيجب أن يكون كل توكله واعتماده على الله وحده.  وهذا ما حدث من إبراهيم لما أُُلقيا فى النار وجآء جبريل عليه السلام تنفيذاً لأمر الله.  ولقد قال الله للملائكة إذا استغاث بكم خليلى فأغيثوه.  وقال جبريل لإبراهيم:  ألك فى حاجة ياإبراهيم..  فقال إبراهيم:  إما إليك فلا وأما إلى الله فعلمه بحالى يغنى عن سؤالى حسبى الله ونعم الوكيل) فكان القرار الإلهى ممن يملك القدرة على الكون كُله الذى أمره موكل بين الكاف والنون حيث قال للنار يانار كونى برداً وسلاماً على إبراهيم فسلبت النار خصيتها ولم تحرق من إبراهيم إلا السلاسل والقيود والأغلال وانطفأت النار وإذا إبراهيم جالس يسبح الله كأنه يتنزه فى بستان.  ولذلك النبى – صلى الله عليه وسلم – يقول:  (من توكل على الله كفاه ومن استغنى به أغناه).

          ومن هنا يجب على المسلم إذا خرج من بيته صباحاً أن يقول: (توكلت على الله – واعتصمت بالله – وسلمت الأمر لله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم) فإذا قال المؤمن ذلك قيل له كفيت ووقيت ورقيت وتنحى عنه الشيطان فلا يمسهُ بشر فى هذا اليوم أبداً.

رابعاً:  نستفيد من دعوة إبراهيم أن أهل الباطل هم دائماً فى خسران وسفل وقد أراد قوم إبراهيم أن تكون لهم الغلبة فغُلبُوا وأن يكون لهم النصر فهزموا ، بل أنهم كانوا هم الأخسرين أعمالاً والأقل وكانوا فى الحضيض مما صنعوه مع إبراهيم عليه السلام ، والقرن الكريم يقول:  (فأرادوا به كيداً فجعلناهُمُ الأخسرين) ، وفى آية أخرى: (فأرادوا به كيداً فجعلناهُمُ الأسفلين).

          وهذا يؤكد أن مرتع الظلم وخيمه وأن الظالم أمره موكل لله تعالى: (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعملهُ الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار).سورة إبراهيم 42

الخامس:  إن الإنسان المؤمن ينبغى أن يكون مطيعاً لله على الدوام.  لا يفقده الله حيث أمره ولا يجده حيث نهاه وهذا ما كان من أمر إبراهيم عليه السلام ، ونجد الله قد وصف الله إبراهيم (وإبراهيم الذى وفى).

          فما طلب أمراً من إبراهيم إلا واستجاب لنداء ربه سبحانه وتعالى ، وإبراهيم كان كاملاً فى كل شئ.  والله سبحانه وتعالى يقول: (إن إبراهيم كان أمة قانتة لله حنيفاً ولم يكن من المشركين.  شاكراً لأنعمه إجتباه وهداهُ إلى صراط مستقيم).

سادساً: الإمتثال لأمر الله تبارك وتعالى ، حينما ابتلاهُ الله ، كان إبراهيم مبتلى بأبيه – وابتلاه فى ابنه وقد مالت شمس حياته للمغيب ولكنه كان خير من يعلم أن أبنه هذا ما أعطاه الله إليه إلا استجاباً لدعوته.  فسلام على إبراهيم مع أبيه مجاهداً.

          سلام على إبراهيم مع قومه ناصحاً ومرشداً.  وسلام على إبراهيم مع إبنه صابراً.

     وسلام على إبراهيم مع إخوانه من الأنبياء ناصحاً ومرشداً وصدق فيه قول الله تعالى:

          (قد كان لكم أُسُوةُ حسنةُ فى إبراهيم والذين معهُ – إذ قالوا لقومهم إنا بُرءاؤاُ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاءُ أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده).

          وصدق فيه قول الله تعالى فى الحديث القدسى..

       (ياإبراهيم لما وهبت قلبك للرحمن وبدنك للنيران وولدك للقربان ومالك للضيفان اتخذناك خليلاً).

          وهذا يؤكد أن الإنسان لا يصل إلى مكانه عالية عند الله إلا بما يقدمه فى جنب الله.

          ويكون مطيعاً لله حق طاعة ومتمثل لأمره حق امتثالاً.

(  والحمدلله رب العالمين )

اترك تعليقاً