بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.
أما بعد،،،
فالتضحية اسم لكل ما يقدمه الإنسان عن رضا وطيب نفس إبتغاء مرضاة الله وحده وعلى هذا تكون التضحية بالمال والوقت أو العلم أو الروح وإيثار التعب على الراحة والخطر على السلامة والمصلحة العامة على الخاصة هذه الألوان من التضحية وخلاصتها مجاهدة النفس الشحيحة الأمارة بالسوء.
مصداقاً لقوله تعالى فى سورة الحشر الآية (9):
(….وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وقد ضرب الصحابة والسلف الصالح أعظم المثل فى البذل والتضحية فاستحقوا أن ينزل الله عليهم نصره ويعز بهم دينه نذكر منها:
1- التضحية بالمال:
سيدنا أبوبكر الصديق فى الهجرة يصطحب ماله كله فى رحلة مع النبى – صلى الله عليه وسلم – ويأتى والده أبوقحافه ، قائلاً لبنيه (ما أرى أبابكر إلا فجعكم فى ماله) فاحتالت السيدة أسماء على جدها أبى قحافة وكان أعمى فجعلت بعض الأحجار فى كُوة بالبيت وألقت عليها ثوبا وأخذت بيد أبى قحافة ليمسسها توهمه أنه مال قائلة (قد ترك لنا أبى هذا يا جدى) قال أبو قُحافة بعد أن تحسس هذه الأحجار بيده (إن كان فعل هذا فقد أحسن).
وفى غزوة تبوك حين انتدب الرسول – صلى الله عليه وسلم – المسلمين لتجهيز جيش العسرة وجد عمر بن الخطاب الفرصة سانحة للتنافس مع أبى بكر فى الخير فأتى بنصف ماله وإذا به يجد أبابكر رضى الله عنه قدم ماله كله فقال: (والله لا أسبقه إلى خير أبداً).
هذا وقد اعتق أبوبكر رضى الله عنه عدداً من العبيد المسلمين الضعفاء الذين كانوا يتحملون إيذاء الكفار أمثال بلال بن رباح وغيره فى بداية الدعوة ، وصهيب الرومى يساومه الكفار على ماله أو يمنعوه من الهجرة فيترك لهم ماله كله ويلحق برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيتلقاه قائلا: (ربح البيع أبايحيى ، ربح البيع أبايحيى).
وجميع المهاجرين تركوا أموالهم وديارهم فى سبيل نصر الإسلام بنفوس راضية طيبة – وعثمان بن عفان الذى جهز ثلاثمائة بعير بأقتابها وأحلاسها فى جيش العسرة حتى يقول صلى الله عليه وسلم (ما ضر عثمان ما فعل بعد).
والسيدة خديجة رضى الله عنها التى وقفت جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم تنصره بمالها وتصدقه بقلبها وقولها ومالها حتى قال فيها صلى الله عليه وسلم: (صدقتنى إذ كذبنى الناس وآمنت بى إذ كفر بى الناس وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس ورزقنى الله منها الولد) ، ومازالت هذه السُنة قائمة حتى يومنا هذا فى كل بقاع العالم الإسلامى متمثلة فى الجمعيات الخيرية (غير الرسمية) التى تخلق المجاهدين فى أهليهم وذراريهم وتحمى المجتمعات الإسلامية من الإنهيار عند النوائب والشدائد والكوارث.
2– التضحية بتقديم الخبرة:
سواء كانت هذه الخبرة رأيا صائباً كما صنع الخباب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بدر إذ أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بالنزول أدنى ماء من القوم وردم كل الآبار عدا البئر التى يعسكر عندها المسلمون فيشرب منها المسلمون والكفار لا يشربون وأشار أيضاً ببناء عريش (مركز قيادة) للرسول صلى الله عليه وسلم يتابع من خلاله سير المعركة فإن انتصر المسلمون فى الغزوة كان بها وإلا خف الرسول إلى المدينة ليلحق بالمسلمين فيها ويستأنف رسالته وجهاده معهم.
وسلمان الفارسى الذى أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بالخندق والسعدان (سعد بن الربيع وسعد بن معاذ) اللذان رفضا إعطاء غطفان تمرة واحدة من تمر المدينة.
وخالد بن الوليد الذى أنقذ بخبرته العسكرية المسلمين فى مؤته من الإبادة حين أعد خطة ناجحة للإنسحاب أبقى معها على أرواح المسلمين ، أو كانت الخبرة صورة من الخدمات الصحية التى كان يؤديها جمع من الصحابيات رضوان الله عنهم مثل عائشة وأسماء وأم سكينة ونسيبة بنت كعب ورفيدة الأسلمية التى تخصصت فى الجراحة ونصب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد خيمة تعالج فيها سعد بن معاذ من جراحته.
ويمتد هذا اللون من التصحية حتى يومنا هذا فيتمثل فى المؤتمرات الإسلامية التى تقدم البحوث الجادة لحلول مشاكل الأمة ، وقوافل الإغاثة الطبية التى ترسل إلى مواقع الأحداث.
3– التضحية ببذل الروح والنفس:
وهذه التضحية سمة الصحابة الأبرار من أول يوم فى الدعوة حيث لقى فى بداية الدعوة أُناس ربهم شهداء وفاضت أرواحهم فداء لهذا الدين تحت العذاب الشديد من المشركين للمستضعفين من المسلمين أمثال سمية بنت خياط رضى الله عنها التى طعنها أبو جهل (لعنه الله) بحربة فى موطن عفتها فلقيت ربها شهيدة وياسر زوجها الذى مات تحت العذاب أيضاً وغيرهم من المستضعفين وفى العهد المدنى لقى كثير من الصحابة ربهم شهداء فى معارك الإسلام فى بدر وأحد والخندق ومؤته وحنين وفى الفتوحات الإسلامية فى عهود الخلافة الراشدة.
فى بدر يسمع عمير بن الحمام رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر من قتل فى هذه المعركة بالجنة فيرمى ثمرات كن فى يده وينشد ركضا إلى الله بغير زاد غير التقى وعمل المعاد والصبر فى الله على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد إلا التقى ولابر والرشاد ويقاتلهم حتى يقتل.
وعوف بن الحارث فى بدر يرمى بنفسه بين الأعداء ويعمل فيهم سيفه حتى يقتل وفى أحد يذيق حمزة بن عبدالمطلب المشركين ألوان النكال فيرميه وحشى بحربة فيصرعه وتأتى هند تأكل كبده وتمثل به (رضى الله عنه) وأنس بن النضر يمر بين المسلمين فى أحد صارخاً اللهم أبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعنى المشركين واعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعنى المسلمين ويقول واها لربح الجنة إنى أشم رائحة الجنة من وراء هذا الجبل ويقاتل المشركين حتى يقتل وما يعرفه أحد بعد موته من كثرة الطعن فيه إلا أخته عرفته بعلامة فى بنانه يقول الصحابة رضوان الله عليهم وكنا نرى أن فيه نزل قول الله تبارك وتعالى (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه وفيهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) سورة الأحزاب .
ومصعب بن عمير وزياد بن السكن وغيرهم من سقطوا حول النبى صلى الله عليه وسلم فى أحد وهم يدافعون عنه وسعد بن الربيع رضى الله عنه الذى يلفظ أنفاسه الأخيرة يوصى برسول الله الصحابة قائلاً: (لا عذرتكم إن خص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف) وفى مؤتة يلقى الأمراء الثلاثة (زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب وعبدالله بن رواحة) ربهم مرضياً عنهم فداء لهذا الدين ، فهذا عبدالله بن رواحة الذى أشعل حماس ثلاثة ألاف من المسلمين لمحاربة مائتى ألف من الروم قائلاً: (إننا لا نقاتل القوم بعدد ولا عدة وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذى ألزمنا الله به) فيوافقه هذا العدد من الصحابة دون إستثناء.
وجعفر الذى آلي ألا يترك راية الإسلام تسقط فحملها بيمينه فلما قطعت حملها بشماله فلما قطعت احتضنها بعضده وما تركها حتى فارق الحياة ولقى ربه شهيداً.
وغيرهم كثيرون من السلف فى الفتوحات الإسلاية منهم من مات فى البر ومنهم من مات فى البحر وفيهم من مات غريقاً لتبقى راية هذا الإسلام خفاقة ولتبقى كلمة التوحيد تتردد فى جنبات هذا الكون وما زالت شجرة الإسلام ترويها دماء الشهداء فى البوسنة فى كوسوفا فى كشمير فى أفغانستان فى فلسطين ومازالت الجنة تفتح أبوابها لاستقبال وفود الشهداء فى الأرض المقدسة يومياً الذين تحصدهم مدافع الحقد اليهودى كل لحظة.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب بعد إنتهاء إحدى المعارك يسأله عمر عن الشهداء فيقول قتل فلان يا أمير المؤمنين وقتل فلان وأناس لا يعلمهم قال عمر (ولكن الله يعلمهم).
4– التضحية بإيثار المشقة على الراحة والخطر على اللامة والشظف على الترف:
مصعب ابن عمير الذى عاش مترفا آثر العيش الخشن فى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رق له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة وأشار إليه قائلاً: (انظروا إلى هذا الفتى الذى نور الله قلبه وصل به حب الله وحب رسوله إلى ما ترون ولقد رأيته فى مكة بين أبوين يغذوانه أطيب الطعام ويلبسانه أفخر الثياب).
وحنظلة سمع داعى الجهد ليلة زفافه فنهض من فراش عروسه إلى المعركة دون أن يغتسل ولقى الله شهيداً فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه رأى الملائكة تغسله بين السماء والأرض وسمى بذلك (غسيل الملائكة) إنه ضحى بليلة عمره كما يقولون وعروسه فى ليلتها الأولى لتعانقه الحور العين فى جنة الفردوس . وأبو خيثمة فى جيش العسرة يجد امرأتيه قد أعدتا له طعاماً شهياً وماءً بارداً ومجلساً ليناً وظلاً ظليلاً فصرخ: ما هذا بالنصف رسول الله وصحابته فى الحر وأنا هنا وقال لهما جهزانى وما نزل عن راحلته حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأبوذر الغفارى تقعد به راحلة وتضعف عن مواصلة السير فى غزوة العسرة فيطرح عنها متاعه ويضعه على عاتقه ويقطع طريق الصحراء الحارقة وحده على قدميه فيلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فيمدحه رسول الله قائلاً: رحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده ويبعثه الله أمة وحده.
5– ألوان أخرى من التضحية:
لا تقتصر التضحية على لون معين بل كل ما يقدمه العبد فى سبيل الله تضحية.
قال تعالى فى سورة الأنفال الآية (60):
(وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ).
كما قال الشيخ سعد مصطفى القصاص ، وما فى الآية نكرة تفيد العموم وكذلك كلمة شئ لذا كانت التضحية بكل محبوب مرغوب سبباً فى تحقيق النصر.
ونقل عن صلاح الدين الأيوبى رضى الله عنه أنه ما نام لسباح المعارك كلها وما ذاق طعاماً وكان مريضاً وكان يردد دائماً آنذاك فى حرقة وأسى (واإسلاماه .. واإسلاماه) كما روى عنه أنه ترك التبسم حزناً على المقدسات حتى تحررت.
وعلبه بن زيد واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لم يجد رسول الله ما يحملهم عليه هجر منامه وقام ليلة يصلى وتصدق على كل مسلم ظلمه بالعفو عنه فلما أصبح قال صلى الله عليه وسلم: يا علبة لقد قبل الله صدقتك الليلة.
وفى العصر الحديث من يبيع سريره وينام على الأرض ومن يبيع دراجته التى تحمله إلى عمله ويسير على قدميه ليقدم كل منهم ثمن السرير أو الدراجة لينصر دينه وغيرهم كثيرون أخفياء أتقياء يدعون ربهم خوفاً وطمعاً.
طلب القائد قتيبة بن مسلم من أحد قواده أن ينظر من فى المسجد ، وذلك قبل أن يغادر المدينة للمعركة فجاءه قائلاً ليس إلا رجل واحد هو محمد بن واسع رافعا إصبعه إلى السماء يسأل الله النصر للمسلمين قال قتيبة: (لإصبع محمد واسع عندى خير من ألف فارس).
بمثل هذه الجهود الصادقة والدعوات المخلصة والتضحيات المتباينة ينصر الله دينه ويؤيد جنوده.
( والحمدلله رب العالمين )