اللعان بين الزوجين

بسم الله الرحمن الرحيم

       الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.

أما بعد،،،

          بعد بيان حكم القذف العام ذكر الله تعالى حكم القذف الخاص وهو قذف الرجل لزوجته.

          قال الله تعالى فى سورة النور الآية (6 : 10):

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10).

تواب حكيم :          (مبالغ في قبول التوبة ، حكيم في ما شرع من أحكام).

          يخبر المولى جل وعلا أن من قذف زوجته (الذى يتهم زوجته) بالفاحشة والزنى ولم يكن لديه بينة تُثبت صدقه فيما أدعى ولا شهود يشهدون على صحة ما قال ، فالواجب عليه أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (أشهد أنها زنت زنى فرج وليس زنى عين) وهذه الشهادات الأربعة تقوم مقام الشهداء الأربعة ليدفع عنه (حد القذف) وعليه أيضاً أن يحلف في المرة الخامسة بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين في رميه لها بالزنى.

          وأما المرأة المقذوفة إذا لم تعترف بالذنب ، وأرادت التخلص من إقامة (حد الزنى) فعليها أن تحلف أربعة إيمان بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنى ، وفي المرة الخامسة عليها أن تحلف بغضب الله وسخطه عليها إن كان زوجها صادقاً في إتهامه لها بالزنى.

          ثم يفرق بينهما الحاكم أو القاضى فلا يجتمعان أبداً ، وليس على الأب (الزوج) مبيت لها ولا كسوة ولا نفقة ، لأن التفريق بالملاعنة وليس بالموت أو الطلاق.   وإذا أنجبت ولد يدعى لأمه ولا ينتسب إلى أبيه (التوارث بين الولد وأمه فقط).

          ثم بين الرب جلا وعلا ….

          أن هذا التشريع الذى شرعه لعباده (اللعان بين الزوجين) إنما هو من (1) رحمته بالناس ، (2) ولطفه بالمذنبين من عباده ولولا ذلك لهتك الستر عنهم ففضحهم وعجل لهم العقوبة في الدنيا وعذبهم في الآخرة.

          (ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه وأن الله توابُ حكيمُ).

          هذا التعليق من الله يُفيد أن فضل الله علينا عظيم في أنه سبحانه وتعالى شرع لنا هذه الأحكام في الملاعنة والقذف والزنى بقسميه (الجلد والرجم) كل ذلك بفضل الله حتى يردعنا وحتى تبقى مجتمعات المسلمين نظيفة- شريفة – طاهرة ، تليق بهم كخير أمة أُخرجت للناس.

سبب نزول هذه الآيات

أولاً:  أخرج البخاري والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال:  أن (هلال بن أمية) قذف امرأته عند النبى – صلى الله عليه وسلم – (بشريك بن سحماء) فقال النبى – صلى الله عليه وسلم:  (البينة وإلا حد في ظهرك).  فقال يارسول الله:  إذا رأى احدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟  فجعل النبى – صلى الله عليه وسلم – يقول:  (البينة وإلا حد في ظهرك).  فقال هلال:  والذى بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهرى من الحد.  فأنزل الله تعالى:  (والذين يرمون أزواجهم)  فأرسل إليهما فجآء هلال فشهد ، والنبى – صلى الله عليه وسلم – يقول:  (الله يعلم إن أحدكما لكاذب فهل منكما تائب).

          ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا:  إنها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت:  لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت….

          فقال النبى – صلى الله عليه وسلم:  أبصروها فإن جآءت به أكحل العينين ، سابع الأليتين ، خدلج الساقين (ممتلئ لحماً) فهو لشريك بن سحماء ، فجآءت به كذلك فقال النبى – صلى الله عليه وسلم:  (لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن) في كتاب فتح البيان ج 6 / ص 326 ، الدرر المنثور ج 5 / ص 22.

ثانياً:  وروى ابن جرير الطبرى بسنده إلى ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال:  لما نزلت هذه الآية:  (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شُهداء) (4)النور.

          قال سعد بن عبادة:  أهكذا أنزلت يارسول الله؟

          لو أتيت لكاع (خبيثة فاجرة) قد تفخدها رجل ، لم يكن لي أن أحركه حتى أتى بأربعة شهدآء؟  فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته.

          فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:  (يامعشر الأنصار أما تسمعون إلى ما يقول سيدكم؟).

          قالوا:  لا تلمه يارسول الله فإنه رجل غيور ما تزوج فينا قط إلا عذراء ولا طلق امرأة له ما تجترأ رجل منا أن يتزوجها؟  قال سعد:  يارسول الله بأبي وأمي ، (1) والله إني لأعرف أنها من الله ، (2) وأنها حق ولكن عجبت أن لو وجدت لكاع قد تفخدها رجل لم يكن لي أن أحركه حتى آتى بأربعة شهداء ، والله لا آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ، فوالله ما لبثوا يسيراً حتى جآء (هلال بن أمية) من حديقة له ، فرأى بعينيه وسمع بأذنيه.             تفسير الطبري جـ 18  صــ 84.

تخصيص اللعنة بجانب الرجل ، وتخصيص (الغضب) بجانب المرأة (1) لأن الغضب أشد في العقوبة من اللعنة ، والمرأة في اقترافها جريمة الزنى أسوأ من الرجل في ارتكابه جريمة القذف ، لذلك أضيف الغضب إلى المرأة.

ثانياً:  ومن جهة أخرى ..

          فإن النسآء كثيراً ما يستعملن اللعن فربما يجترئن على التفوه به لاعتيادهن عليه وسقوط وقعه من قلوبهن بخلاف غضب الله – (فتدبروا).

الأحكام الشرعية

الحكم الأول:

هل يجوز اللعان بدون حضور الحاكم؟  أو القاضي؟

          اتفق  الفقهاء على أن اللعان لا يجوز إلا بحضرة الحاكم أو من ينيبه الحاكم لأنه إذا نكل (امتنع عن اللعان) أحدهما أو ثبت عليه الأمر وجب الحد.  وإقامة الحد من خصائص الحكام.

ثانيا:   وينبغي أن يعظ الإمام الزوجين ويذكرهما بعذاب الله ويقول لكل واحد منهما:  عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ويخوفهما بمثل قوله – صلى الله عليه وسلم:  (أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فلست من الله في شئ ولن يدخلها الله الجنة.  وإيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين).

رواه أبوداود والنسآئي وابن ماجه.

الحكم الثاني:

النكول عن اللعان هل يوجب الحد؟

          النكول:  الامتناع عن اللعان

          قال الفقهاء:  إذا أمتنع أحد الزوجين عن اللعان هل يجب عليه الحد؟

أ‌.       مذهب الجمهور:  (مالك – الشافعي – وأحمد)

أن الزوج إذا امتنع عن اللعان فعليه (حد القذف) وإذا امتنعت الزوجة عن اللعان فعليها (حد الزنى).

الحكم الثالث:

هل يُفرقُ بين المتلاعنين؟

          قضت السنة النبوية أن المتلاعنين لا يجتمعان أبداً ، فإذا تلاعن الزوجان وقعت الفرقة بينهما على سبيل (التأييد) مصداقاً لما روى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبى – صلى الله عليه وسلم – قال:  (المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً) والحكمة في ذلك (التحريم المؤبد).

          لأنه قد وقع بينهما من التباغض والتقاطع ما أُوجب القطيعة بينهما بصفة دائمة.

          فإن الرجل إن كان صادقاً فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد ، وإن كان كاذباً فقد أضاف إلى ذلك أنه بهتها وزاد في إيلامها وحسرتها وغيظها.

          وكذلك المرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد ، وأُوجبت عليه لعنة الله ، وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها ، وألزمته العار والفضيحة.  فقد حصل بينهما النفرة الدائمة والوحشة البالغة.

          ومن المعلوم أن أساس الحياة الزوجية السكنُ والمودة ، والرحمة ، وقد زالت هذه باللعان فكانت عقوبتهما الفرقة المؤبدة.

حكمة التشريع

لماذا شرع الله اللعان؟

          شرع الحكيم العليم ( اللعان) لحكمة جليلة سامية ، هي من أدق الحكم وأسماها في صيانة المجتمع وتطهير الأسرة.

          وعالج القرآن بهذا التشريع الدقيق ناحية من أخطر النواحي التى يواجهها الإنسان فى حياته الواقعية الأليمة ، حين يرى بعينه (جريمة الزنى) ترتكب في أهل بيته فلا يستطيع ن يتكلم ، ولا أن يجهر بها لماذا؟

          لأنه ليس لديه بينة تثبت ذلك ، ولا يستطيع أن يقدم على القتل (لغسل العار) لأن هناك قصاص ، ويبقى محتاراً مشتتاً ، أنها حالات من الضيق النفسي.

          وتشآء حكمة الله أن تقع مثل هذه الحوادث في أفضل العصور (عصر النبوة) وبين أطهر الأقوام (صحابة الرسول) والقرآن ينزل والوحى يتلى لماذا؟

          ليكون درساً عملياً تربوياً يتلقاه المسلمون بكل صلابة.

          عندما جاء هلال بن أمية بيته مساء فيرى بعينه ويسمع بأذنيه صوت الخيانة واضحاً فذهب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيقول له:  (البينة أو حد في ظهرك).  فيقول هلال: يارسول الله والله إني لصادق وإني لأرجو أن يجعل الله لي منها فرجاً ومخرجاً ، وينزل الوحى على الرسول بهذه الآيات التى أصبحت (1) قرآنا يتلى  ، (2) ودرساً يحفظ ، (3) ونظاماً يطبقه المسلمون في حياتهم.  ويقول الرسول الكريم:  (أبشر ياهلال فقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً).

          فشرع الله عز وجل (اللعان) بين الزوجين لماذا؟

(1)     ليستر المولى على عباده زلاتهم ، (2) ويفسح أمامهم المجال للتوبة والإنابة.

          ولولا هذا التشريع الحكيم لأُريقت الدماء ، وأُزهقت الأرواح في سبيل الدفاع عن (العرض والشرف).

          فكان في هذا التشريع الإلهي الحكيم أسمى ما يتصوره المرء من العدالة والحماية وصيانة الأعراض وقبر الجريمة في مهدها.

          فهو بطريق اللعان إذ يترك الأمر معلقاً لا يستطيع أحد أن يجزم بوقوع الجريمة أو بخيانة الزوجة ، ولا يقطع بكذب الزوج إذ يحتمل أن يكون صادقاً ثم يفرق بينهما فرقة مؤبدة تخلص الإنسان من الشقاء ، وتقطع ألسنة السوء وتصون كرامة الأسرة.

 (والحمد لله رب العالمين)

 

اترك تعليقاً