حديث (إن الله أوحى إلى أن تواضعوا)

v

بسم الله الرحمن الرحيم

       الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.

أما بعد،،،،

          فعن عياض بن حمار – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال:  (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحدُ على أحد ولا يفخر أحدُ على أحد).

          هذه وصية جامعة لخصال الخير كلها ، أوحى الله بها إلى نبيه عليه الصلاة والسلام وأجراها على لسانه في كثير من خطبه ومواعظه ، وجعلها مفتاح شخصيته ، وفي شأنه كله مع الله ، ومع نفسه ، ومع الناس.

          ولهذا جعلها الله أول وصف وآخر وصف من أوصافهم في الذكر ، فقال في سورة الفرقان الآية (63):

(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا).

          فهم أولاً يمشون على الأرض هينين لينين ، لا يتعالون على أحد ، ولا يفخرون بحسب ولا نسب ولا مال ولا جاه ولا سلطان.

          وإذا خاطبهم جاهل غضوب لا خُلق له ولا دين – لم يسلبهم أحلامهم ، ولم يُقلل من تواضعهم ، ولم يجعلهم يقابلون الإساءة بمثلها ، ولكن تراهم يعفون ويصفحون ويغفرون، ويقولون قولاً منه سلام لأنفسهم ولغيرهم.

          والتواضع مع الناس هو المقصود في هذه الوصية ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام:  (حتى لا يبغي أحدُ على أحد ولا يفخر أحدُ على أحد).

          وحرف (حتى): لئلا يؤدي عدم التواضع إلى البغي على الناس بغير الحق ، والفخر بما لا ينبغي التفاخر به.

          وحتى:  أي تواضعوا ثم تواضعوا ثم تواضعوا إلى الحد الذى يشعر فيه أحدكم أنه لا يفكر في البغي فضلاً عن كونه يعمله.

          والتواضع خُلق فاضل ، وقد اجتمعت فيه شعب الإيمان كلها.

          التواضع المطلوب فهو التواضع الذى لا يؤدي إلى منقصة ولا مذلة ، ولا يحمله على التكلف البغيض.

          روى أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – زار معاوية بن أبي سُفيان في الشام ، وكان والياً عليها ، فأستقبله معاوية بالخيل المسومة ، ذات السروج المطعمة بالزينة ، ومعه الحرس عن يمينه وشماله ، وأمامه وخلفه ، في موكب لا يكون إلا للملوك فأبى عمر أن يكلمه ، فقال له عمرو بن العاص:  ياأمير المؤمنين: أتعبت الرجل يكلمك ولا تكلمه ، قال عمر:  يامعاوية ، ماهذا الذى أرى ، فقال:  ياأمير المؤمنين ، إنني في بلاد لا يسمع أهلها ولا يطيعون الوالي إلا إذا كان بهذه الأبهة ، فسكت عمر ثم قال:  حيلة لبيب أو خدعة أريب ، فأنت وذاك.

كيف يتواضع العبدلله؟

          والجواب عن هذه الأسئلة يتلخص في أربعة أمور:

الأمر الأول:    النظر في مبدأ خلقه من أين خُلق؟ 

بهذا يصل العبد بخالقه ويشعره بنعمة وجوده ، ويريه في نفسه آيات قدرة خالقه ومولاه.  مصداقاً لقوله تعالي في سورة الطارق الآية (5:7):

(فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)(7).

          وكذلك قوله تعالى في سورة السجدة الآية (7 – 8):

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ)(8).

          فإذا فكر وتدبر في هذه الآيات عرف أنه صفر لا يساوي شيئاً العالم كله أصفار مثله.

الأمر الثاني:  النظر إلى مصيره ومستقره وماذا قدم لنفسه من عمل صالح؟

          فهو من التراب وإلى التراب يعود ، والموت أقرب إليه من شراك نعله وبعده تتساوى الرءوس ويوضع الرئيس بجانب المرءوس ويتخلى عنه أهله ويرجعون إلى ما قد ملكت يداه ، فيقسمونه بينهم بحسب ما تقضي به الشريعة الغراء ، وهو مسئول عنه يوم القيامة من أين اكتسبه ، وماذا عمل فيه.

الأمر الثالث:  النظر فيما أعده الله للمتواضعين وما أعده للمتكبرين ، وبهذا يعظم شأنه عند الله عز وجل ، فمن تواضع لله رفعه.

          ولو نظر إلى الوعيد الشديد الذى توعد الله به المتكبرين لضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وضاقت عليه نفسه.

الأمر الرابع:  الإكثار من ذكر الله عز وجل ، فهذا يطرد عن الذاكرة شبح الغفلة ، ويزيل من صدره ظلمة الوحشة.

          مصداقاً لقوله تعالى في سورة الأحزاب الآية (41 : 44):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)(44).

          إذا ذكرتم الله ذكراً كثيراً وسبحتموه في الصباح والمساء وسائر الأوقات – تغمدكم برحمته ووسعكم فضله ، وأخرجكم من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان.

          هذه هي الأمور الأربعة التى يصل العبد إلى هذا المقام فيكون من جملة عباد الرحمن حقاً.

كيف نعود أنفسنا على مسايرة الناس والتواضع لهم؟؟

أولاً:  نتخلص من الأنانية وحب الذات ، وذلك بأن يعلم أن الحياة أخذ وعطاء ، وأن الدهر يومان يوم لك ويوم عليك ، وأن الناس للناس بعضهم لبعض خدم ، وإن تباعدت بينهم الأقطار والديار ، وأن القوى لا يستغني بحال عن الضعيف ، والغني لا يستغنى عن الفقير ، ويعرف أيضاً أن الناس مهما تفاوتت أنسابهم فكلهم لآدم ، وآدم من تراب ، وأن الدنيا ظل زائل ، وعارية مستردة ومتاعُها قليل ، فمهما طال العمر فيها فإنه قصير ، وأن الخير كل الخير في التعاون على البر والتقوى ، وأن الإنسان مدني بالطبع ، لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن أبناء جنسه.

          فإذا عرف هذه الحقائق كلها فلا يتعالى على أخيه.

          ولن يؤلف الله بين القلوب إلا إذا تواضع الناس فيما بينهم ، وعرف كل إنسان منهم حق أخيه عليه في السراء والضراء ، والشدة والرخاء ، وتركوا البغي والتكبر والتفاخر بالأنساب والأحساب ، وجمعوا قلوبهم عليه ، وتواضعوا جميعاً لعظمة الله.

          فعندئذ يرحمهم ربهم ويؤلف بين قلوبهم ، وينصرهم على أنفسهم وعلى عدوهم من شياطين الإنس والجن.

ثانياً: أن يجعل أمام عينيه ما كان عليه النبى – صلى الله عليه وسلم – من خُلق فاضل وكمال وافر ، وتواضع حجم مع سمو منزلته في العالمين ، فيقتدى به في عاداته وعباداته وسلوكه كله ، ما أستطاع إلى ذلك سبيلاً.

(1)فقد كان عليه الصلاة والسلام يجالس الفقراء والمساكين ويرعي شئونهم ، ويخدمهم بنفسه ، ويواسيهم بماله وطيب حديثه ، ونظرته الحانية ، ويشاركهم آمالهم وآلامهم ، ويشعرهم بأنه واحد منهم.

(2)ومن تواضع النبى عليه الصلاة والسلام أنه كان في بيته في خدمة أهله ، يحلب الشاة، يخصف النعل ، يخدمهم في بيتهم ، لأن عائشة – رضي الله عنها – سُئلت ماذا كان النبى – صلى الله عليه وسلم – يصنع في بيته؟

          قالت:  (كان في مهنة أهله) بمعنى فى خدمتهم.

          فمثلاً الإنسان إذا كان فى بيته فمن السُنة أن يصنع الشاي مثلاً لنفسه ، ويطبخ إذا كان يعرف ، ويغسل ما يحتاج إلى غسله ، كل هذا من السُنة ، أنت إذا فعلت ذلك تثاب عليه ثواب سُنة إقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام وتواضعاً لله عز وجل ، لأن هذا يؤجد المحبة بينك وبين زوجتك ، إذا شعرت زوجتك أنك تساعدها في مهنتها (شغل البيت) أحبوك ، وإزدادت قيمة عندهم ، فيكون في هذا مصلحة كبيرة.

(3)أمثلة من تواضع النبى – صلى الله عليه وسلم – منها:

          أنه كان يسلم على الصبيان إذا مر عليهم ، واقتدى به أصحابه – رضي الله عنهم – فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه أن رسول الله كان يمر بالصبيان فيسلم عليهم ، يمر بهم في السوق يلعبون فيسلم عليهم ، وهذا من التواضع وحسن الخلق ، ومن التربية وحسن التعليم والإرشاد والتوجيه.

          وكان صلى الله عليه وسلم يحمل متاعه بنفسه ، ولا يحب أن يحمل أحد شيئاً منه غالباً ، ويقول:  (صاحب الشئ أولى بحمله).

          وكان لا يحب أن يُقبل يده أحد ، ويقول:  (إنما تفعل ذلك الأعاجم بملوكهم).

          وكان يقول:  (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم وقولوا: هو عبدالله ورسوله).

الأمر الثالث:    أن يتعلم الإنسان أُصول الأخلاق من القرآن والسنة ليبني عليها كل ما جد ويجدُ من شئون الحياة ، ويتعرف على الطباع البشرية ، حتى يكون تواضعه بالقدر الكافي والمناسب والذى لا تكون فيه مذلة ولا منقصة.

الامر الرابع:            أن يكون بعيداً كل البعد عن المؤثرات الخارجية والتقليد الأعمى.

بمعنى:  أنه إذا أراد أن يتواضع لا يتكلف في تواضعه ليقلد الآخرين من غير وعي ولا إدراك.

          هذه هي الأمور التى لو راعاها المسلم حق رعايتها لكان في الذروة العليا من الكمال الخُلقي ، لأن التواضع يجمع شعب الإيمان كلها ، حتى يبدو للناس أن المتواضع ملك يمشي بينهم على الأرض.

          فمن تواضع لله عز ، ومن تواضع للناس ملك قلوبهم ، ومن تكبر على الله سحقه ومسخه وانتقم منه شر إنتقام ، ومن تكبر على الناس ذل.

          وأعلم أخي المسلم أن التواضع الحق ما نفى (أبعد) عنك شبح الكبر وطيش العجب ونزوة الغرور ، ويبعد عنك آفة الفخر والخيلاء وحب الظهور ، وأجارك من عذاب الغضب والحقد والحسد ، وسما بك إلى سمآء المجد والعز ، وبُعدك عن مجالس الفجار ، وألقى بك في مجالس الأبرار ، وهداك إلى سعى الآخرة ، وأدخل عليك السرور وهون عليك عظائم الأمور وجمع بينك وبين الناس في خير ووفاق ، وألهمك رشدك وتقواك ، وجعل التوفيق حليفك في كل شئ تحبه وترضاه.

كيف نعرف عظمة التواضع ومنزلة المتواضعين؟

          انظر فيما أعد الله لهم من النعيم المقيم وما أعده للجبارين المتكبرين في الجحيم.  مصداقاً لقوله تعالي في سورة الفرقان الآية (63):

(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا)

وتجد هنا أن الله سبحانه وتعالى قد أضافهم إليه تشريفاً لهم وتكريماً (وعباد الرحمن).

          وقد وصفهم الله تعالى بثمان صفات وأخبر عنهم بما أعده لهم من كرامة يوم القيامة ، الأولى:  الذين يمشون ليسوا جبابرة متكبرين ، ولا عصاة مفسدين ولكن يمشون متواضعين عليهم السكينة والوقار وإذا كلمهم السفهاء بما يكرهون من القول قالوا قولاً يسلمون به من الإثم فلم يردوا السيئة بالسيئة ولكن بالحسنة.

          ولك أن تعلم أن المتكبرين شرار الخلق في الدنيا والآخرة ، فقد أبغضهم وبغض فيهم خلقه ، ولعنهم لعناً كبيراً ، وضرب عليهم الذلة والمسكنة وحرم عليهم دخول الجنة ، وجعلهم يوم القيامة كالذر يطؤهم الناس بأقدامهم.

          وقد روى ابن ماجه وغيره ، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه ، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال:  (من تواضع لله درجة يرفعه الله درجة حتى يجعلهُ الله في أعلى عليين ، ومن تكبر على الله درجة يضعُه الله درجة حتى يجعله في أسفل سافلين).

الحديث الثاني:         روى النسائى وابن حبان ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:  (أربعة يبغضهم الله:  البياعُ الحلاف ، والفقيرُ المختال ، والشيخُ الزاني ، والإمام الجائرُ).

الحديث الثالث:         وروى مسلم وغيره ، عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – أن النبى – صلى الله عليه وسلم قال:  (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فقال رجل:  إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حسناً ، ونعُلُه حسنة؟  قال:  (إن الله جميل يحب الجمال ، الكبرُ بطر الحق وغمط الناس).

          بطر الحق:     رد الحق ودفعه.

          غمط الناس:   احتقارهم وإزدراؤهم.

          والخلاصة أن يتواضع كل واحد للآخر ولا يترفع عليه ، بل يجعله مثله.

          وكان من عادة السلف الصالح رحمهم الله ، أن الإنسان منهم يجعل من هو أصغر منه مثل ابنه ، ومن هو أكبر مثل أبيه ، ومن هو مثله مثل أخيه ، فينظر إلى ما هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال ، وإلى من هو دونه نظرة إشفاق ورحمة ، وإلى من هو مثله نظرة مساواة ، فلا يبغي أحدُ على أحد وهذا من الأمور التى يجب على الإنسان أن يتصف بها ، أي بالتواضع لله عز وجل ولإخوانه من المسلمين.

          نعوذ بالله من الكبر وتوابعه ، وعقباته وعواقبه ، ونستجير به من شر المتكبرين ، ونسأله جل شأنه أن يلهمنا رشدنا ، وأن يجعلنا من خيار المتواضعين لعظمته ، وأن يحشرنا مع المحسنين والصديقين والشهداء والصالحين في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .

                                      ( والحمد لله رب العالمين)

 

 

اترك تعليقاً