ماذا حدث بعد رحيل الأحزاب عن المدينة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

       الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.

أما بعد،،،،

          فحال المؤمنين بعد إنسحاب الأحزاب أخذوا يرددون خلف النبى – صلى الله عليه وسلم:  (لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شئ بعده).

          انتصر المسلمون بلا حرب وإن كان قد وقع منهم شهداء – وذهب الأحزاب إلى بلادهم يجرون معهم الخزي والعار.

          وأراد الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يستريح قليلاً فدخل إلى بيت أم سلمة وأمر المسلمين أن يستريحوا كذلك حتى يستجمعوا قواهم ، ولكن ما هي إلا لحظات حتى أتاه جبريل وقال له:  (أوضعتم السلاح؟).

          أخرج إلى هاهنا وأشار إلى بني قريظة – ونهض رسول الله – صلى الله عليه وسلم من فوره ولبس لباس الحرب وأمر منادياً فأذن في الناس لا يُصلين أحد منك العصر إلا في بني قريظة – إستجاب الناس إلى داعي رسول الله – وخرجوا إلى بني قريظة – واستخلف النبي – صلى الله عليه وسلم – على المدينة عبدالله بن أُم كلثوم.

          واعتصم اليهود بحصونهم ، وكانوا يرتجفون فزعاً ورعباً في المصير المخيف الذى ينتظرهم على أيدى المسلمين جزاء غدرهم وخيانتهم ، ولابد أن تكون هناك تصفية حساب وأن تتناسب العقوبة على مستوى الجريمة التى أرتكبها اليهود.

          وقد حمل لواء النبى – صلى الله عليه وسلم – علي بن أبي طالب ، وقد كان في مقدمة الجيش وقد عسكر حولهم إلا أن اليهود (1) أسمعوا علياً ابن عم النبى – صلى الله عليه وسلم – من السب والشتم والقذف الشئ الكثير ، فتماسك علي ولم يرد عليهم ، (2)فزادوا في التطاول بقذف النسآء الطيبات الطاهرات العفيفات. (أمهات المؤمنين) وجآء النبي مقبلاً من بعيد تحرك علي وأستوقف النبى على بعد من حصون اليهود الغرض: حتى لا يسمع النبى – صلى الله عليه وسلم – ما يتفوه به اليهود من سب فيه وفي نسآئه.

          وعرف النبى – صلى الله عليه وسلم – ما في عيون الإمام علي ..  فقال:  (لعلك سمعت منهم لي أذى؟)  قال الإمام علي:  نعم يارسول الله – صلى الله عليه وسلم.  فقال النبى:  ياعلي:  (لو رأوني لن يقولوا من ذلك شيئاً).

          وتقدم النبى – صلى الله عليه وسلم – ونادى على اليهود وحدد شخصيات من قياداتهم ، فلما ظهروا فقال لهم:  (يا أخوة القردة وياعبدة الطاغوت هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته).

          وهنا بدأ اليهود في التلطف والوداعة وأنكروا أنهم شتموا النبى – صلى الله عليه وسلم – قالوا:  (يا أبا القاسم متى كنت جهولاً؟).  فهم تظاهروا باللين والوداعة في هذا الموقف لكنهم كالأفاعي السامة الغادرة تتظاهر بالبراءة حتى تتمكن وتبدي مظهرها الناعم اللين حتى تقتل من يداعبها.

كان من اليهود عقلاء

        وهو عمرو بن سعدي وهو:  سيد من سادات بني قريظة وزعيم من زعمائهم وقد أعلن على الملأ أنه متمسك بعهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولن يخون المسلمين هذا الرجل سارع بعمل اجتماع حضره زعماء بني قريظة وقال لهم:  (إن محمداً لا يعادي إلا كان (1) مصيره الخسران ، (2) وتعالوا نتبع محمداً ، فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي وقد بشرنا به علماؤنا).

          وقال:  (ياقوم إذا كنتم قد خنتم المسلمين ، ولم تقبلوا الدخول في دينهم فادفعوا الجزية واثبتوا على دينكم).

ماذا كان ردهم

          صاحوا فى وجهه والغرور يملأهم نحن لا نقر للعرب بخراج في رقابنا يأخذونه القتل خير من ذلك.

ياترى ما مصير عمرو بن سعدي سيد من سادات بني قريظة؟

          خرج عمرو بن سعدي ليلاً من حصنه وهو مغاضب لقومه الذى لم يقبلوا عرضه عليهم – القى عليه القبض من الحزب النبوي الذى كان يقوم بأعمال الحراسة الدورية وجآءوا به مقبوضاً عليه إلى قائد الكتيبة (محمد بن مسلمة) وعندما عرفه القائد أمر بفك قيده وإطلاق سراحه وله أن يذهب حيث شآء (هل جزاءُ الإحسان إلا الإحسان).

          ولأن الحصار على اليهود حصار بأهل الغدر والخيانة وعمرو لم يرتكب هذا – ولما ذكرت هذه القصة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:  (ذاك رجل نجاه الله بوفائه).

الحصــــــار:

          حاصر المسلمون اليهود واتخذ الرسول – صلى الله عليه وسلم – مقر قيادته عند بئر من آبار اليهود ، واستمر الحصار لمدة عشرين يوماً ، واليهود أيقنوا أن المسلمين لن ينصرفوا عنهم حتى يستسلموا أو يقتحم المسلمون هذه الحصون يفتحوها بحد السيف.

          ولما أحس بذلك أحد زعماء اليهود (كعب بن أشد) دعا إلى اجتماع عاجل لتبادل وجهات النظر وكان هذا الرجل كارهاً لنقض العهد مع الرسول في أول الأمر لكنه استجاب.

          وقد دعا كعب في هذا الاجتماع لواحدة من ثلاثة:

(1)الدخول في الإسلام وإتباع هذا النبى.

(2)القيام بعمل إنتحاري ، أن نقتل النسآء والأطفال ثم نهجم على المسلمين فنبيدهم ويبيدونا.

(3)يوم السبت يوم عطلة عند اليهود ، والمسلمون  يعرفون  ذلك  فنقوم  على  حين   غرة

بالهجوم عليهم يوم السبت.

          ولكن اليهود رفضوا العمل بأي من هذه الاقتراحات.

          ولما بلغ الحصار ذروته بعثوا إلى النبى – صلى الله عليه وسلم – في محاولة منهم لحقن دمائهم حيث يسمح لهم بالخروج مع نسآئهم وذراربهم وأن يتركوا يثرب ولا يعودوا إليها – رفض هذا العرض رفضاً باتاً.

          فأعادوا العرض بواسطة مندوبهم أنهم على استعداد لترك كل ممتلكاتهم وأموالهم للمسلمين وأن يسمحوا لهم بالخروج ، ولكن هذا العرض كذلك رُفض…

          اليهود قالت ماذا نفعل الآن؟  نستعين بقريش وبغطفان ، ولكن هذه القبائل حاقدة على اليهود حيث طلبوا منهم رهائن ، لم ولن يستجيبوا لهم.

          نستعين بيهود بني النضير الذى أجلاهم الرسول – صلى الله عليه وسلم ، ولكن يهود بني النضير قد أُصيبوا بالخوف والذعر بعد إنسحاب جيوش الأحزاب وليس عند يهود بني النضير القدرة على منازلة المسلمين بعد أن طردوا من المدينة.  (رأي اليهود أنه لا حيلة لهم في شئ إلا أن يستسلموا).

          فقاموا بمحاولة أخيرة ، فقد أرسلوا إلى النبى – صلى الله عليه وسلم – يطلبون منه أن يسمح لحليفهم أبي لُبابه الأنصاري بأن يدخل إليهم ليستشيروه في أمرهم.

لماذا أبو لُبابه بالذات؟

          لأن أبا لُبابه كان (حليفاً) لبنى قريظة وكانت أمواله وأولاده في منطقتهم ، وسمح النبى – صلى الله عليه وسلم – وهو القائد الأعلى لأبي لُبابه أن يذهب إليهم.

          ولما ذهب أبولُبابه إليهم أستقبله النسآء والصبيان يبكون فى وجهه – وفعلاً رق قلب أبي لُبابه وغلبته العاطفة.

          وعندما اجتمع به الرجال وشرحوا له صعوبة موقفهم ، أشار بيده إشارة يفهم منها

أن مصيرهم (الذبح).

          وعندها شعر أبو لُبابه أنه أرتكب جُرماً عظيماً وخطأ كبيراً في حق الأمة استرجع وقال:  (لاحول ولا قوة إلا بالله) ، وفاضت عيناه بالدموع ندماً على ما فعل – ولما رآه سيد بني قريظة (كعب بن أسعد) ما بك يا أبا لُبابه؟

           قال أبولُبابه:  خنت الله ورسوله – قال:  أنت لم تتكلم.  قال أبولُبابه:  ولكني أشرت بما فهمتم.  وعاد أبولُبابه إلى معسكر المسلمين وكان ضميره يؤنبه وهو مهموم محزون ولم يذهب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خجلاً منه وتوجه إلى المسجد وربط نفسه في عموده.

          لقد كان امتحاناً نفسياً قاسياً تعرض له هذا الصحابي الجليل الذى ربط نفسه بسلسلة ثقيلة بالعمود الذى يقع عند باب أُم سلمة.

          ولما بلغ الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما فعل أبولُبابه ، قال:

          (أما إنه لو جاء لي لاستغفرت له ، أما وقد فعل ما فعل فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه).

          واستمر على ذلك أبولُبابه وكانت امرأته تأتيه وقت الصلاة فتفك رباطه ليقوم وقضاء حاجته ثم يعود فتربطه كما كان – واستمر على ذلك 17 ليلة حتى كاد يذهب سمعه وبصره.

          ولقد بشر النبى – صلى الله عليه وسلم – بتوبة الله على أبي لُبابه وهو في بيت أُم سلمة – أستيقظ النبى – صلى الله عليه وسلم – فى السحر وقد سمعته أم سلمة وهو يضحك – فقالت له:

          مم تضحك يارسول الله – أضحك الله سنك؟

          قال:  (تيب على أبي لُبابه).

          قالت:  ألا أبشره يارسول الله؟  قال النبى – صلى الله عليه وسلم: (بلي).  فقامت على باب حجرتها ، فقالت:  ياأبا لُبابه أبشر فقد تاب الله عليك.  فجآء الناس ليطلقوه – فقال أبولُبابه:  لا والله حتى يكون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو الذى يطلقني بيده.  فلما مر عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خارجاً إلى صلاة الجماعة أطلقه.

          فرح أبولُبابه بقبول الله توبته.

          أراد أن يتصدق بكل أمواله – فقال له النبى – صلى الله عليه وسلم:  (يجزيك الثلث أن تتصدق به).

          إن القرآن الكريم أشار إلى خيانة أبي لُبابه كما قال ابن عباس فى قوله تعالى في سورة الأنفال الآية (27):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).

          قد نزلت هذه الآية في أبى لُبابه وقد ربط نفسه في عامود وقال:  والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله علي والخبر مشهور في سيرة ابن هشام.

          لا تخونوا دينكم ورسولكم بإطلاع المشركين على أسرار المؤمنين.

الشرح:  قال البعض أنها نزلت في أبي لُبابه الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة – (خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً).

          والبعض الآخر قال:  نزلت في الذين لم يذهبوا إلى غزوة تبوك.

          وفي البخاري عن سمرة بن جُندُب قال:  قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:  أتأتي الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطرُ كأقبح ما أنت راء قالا لهم:  اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنه فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك.

يهود بني قريظة:

          لقد انقطع كل أمل عندهم وأصبحوا في حالة يأس وسيطرت عليهم روح الجبن وانهاروا إنهياراً كلياً.

          لهذا يقول اللواء الركن (محمود شبت خطاب) في كتابه (الرسول القائد):

          (لم تكن حرب بني قريظة حرب ميدان وإنما كانت حرب أعصاب فلم يستطيع اليهود أن يتحملوا الحصار على الرغم من توافر المواد الغذائية وتوفر المياة الجوفية في الآبار – لقد قذف الله فى قلوبهم الرعب وهم على تلك الحالة من (1) القوة ، (2) والمتعة ، (3)والتحصن ، (4) ووفرة السلاح ، (5) وكثرة العدد).

كيف حال المسلمون في خارج حصن بني قريظة؟

        كانوا في حالة تعب شديد نتيجة الجهد المضني الذى بذلوه (1) في حفر الخندق ولياليه المخيفة وحرموا من النوم لشدة الخوف ودوام الحراسة في وجه عدوهم الجبار حيث لم تكن هناك فرصة يستريحون فيها.

          ومع ذلك فالزاد قليل والبرد شديد – وهم يرابطون حول حصون اليهود في العراء فيتعرضون للبرد القارس – ولما طالت المدة عن عشرين ليلة كان على القوات الإسلامية أن تقرر إقتحام الحصون المغلقة.

          فصاح علي حامل لواء الجيش وقال:  (والله لأذوقن ما ذاق حمزة ولأفتحن حُصونهم) ، وتبعه الزبير بن العوام وهو ابن عمته – وسمعت اليهود فرأت أن كتائب الجيش الإسلامي تتحرك وأن الهجوم على حصونهم أمر لابد منه فسارعوا (1) بطلب إيقاف الهجوم ، (2) وأعلنوا الإستسلام ، (3) والنزول على حكم الرسول – صلى الله عليه

وسلم – دون قيد أو شرط.

          طلب المسلمون من اليهود إلقاء السلاح وفتح الأبواب والخروج من الحصون.

          وقد أمر النبى – صلى الله عليه وسلم – أن يكون للرجال حبس خاص ، وأما النسآء والأطفال فقد أمر النبى – صلى الله عليه وسلم – أن يحفظوا في مكان ليس فيه صفة الحبس وقد نزلوا في دار الضيافة التى ينزل فيها الوفود التى تزور المدينة.   كل هذا في سيرة ابن هشامالسيرة الحلبيةوالبداية والنهاية.

          يهود بني قريظة طلبوا من حلفائهم الأوس أن يشفعوا لهم عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لذلك تشكل وفد من الأوس وذهبوا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يتكرم بالتخفيف في الحكم على اليهود ، والذى شجع وفد الاوس على ذلك أن قبيلة الخزرج شفعت قبل ذلك في يهود (بني قينقاع) ، وقد قبل – صلى الله عليه وسلم – شفاعة الخزرج واكتفى بإخراجهم من المدينة.

          فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:  (ألا ترضون يامعشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم).

          قالوا:  بلى – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:  (فذاك سعد بن معاذ).  فرح الوفد بذلك لأن الكلمة أصبحت عندهم – وأسرع الوفد إلى سعد بن معاذ – وقد سبق الكلام عن سعد بأنه (1) شخصية شعبية تتمتع بحب الجماهير ، (2) وهوسيد الأوس وله أهله وعشيرته – لذلك لما جرح في غزوة الخندق – وضعه النبى في المسجد وأن تقوم على علاجه امرأة لها خبرة في مداواة الجرحى (رُوفيدة).

          وقد أعدوا له دابة ليركب وينتقل على هذه الدابة إلى مقر قيادة الرسول – صلى الله عليه وسلم – أخذوا يلحوا عليه أن يحسن ليهود بني قريظة ، قال لهم:  (لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم).

          وصل سعد إلى مقر قيادة النبى – صلى الله عليه وسلم – في بني قريظة.  وكان سعد عظيم الشأن عند النبى – صلى الله عليه وسلم ، (2) ورفيع المقام في قومه ، (3)ومحبوب بين المسلمين لأنه يتمتع بالذكاء والفطنة وبُعد النظر ورحابة الصدر وسعة الأُفق وهو شهم شجاع سخي النفس – كريم اليد.

          أمر النبى – صلى الله عليه وسلم – الموجودين حوله أن يقوموا ويقفوا تحية لمقدمه ، فقال صلى الله عليه وسلم:  (قوموا إلى سيدكم).

          لذلك وقف الجميع صفين يحييه كل رجل منهم حتى انتهى إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

          ولما نزل واستراح قال له النبى – صلى الله عليه وسلم:

          (أحكم فيهم ياسعد) ، فرد سعد:  (الله ورسوله أحق بالحكم).  فقال النبى – صلى الله عليه وسلم:  (قد أمرك الله أن تحكم فيهم).

          بدأ سعد يسترجع شريط الماضي وذكرياته – وكيف أن هؤلاء اليهود قد نقضوا عهدهم – وذهب إليهم – فشاتموا وتطاولوا عليه ولم يرعوا له حقاً ، ثم نالوا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بكلمات كلها فحش وبذاءة وتطاول حتى قال يومها:

          (اللهم لا تُمتني حتى تقر عيني من بني قريظة).

          وهذا لا يجعل سعداً يخرج عن حد العدل لأنه يلتزم بتعاليم الإسلام وقيم الدين وهو من الذين يحفظون قول الله تعالى في سورة النسآء الآية (135):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).

          يا من ءامنتم بالله وصدقتم بكتابه كونوا مجتهدين في إقامة العدل والإستقامة حتى لا يكون منهم ظلم أبداً وتقيموا شهاداتكم لوجه الله دون تحيز ولا محاباة – حتى لو كانت تلك الشهادة على أنفسكم أو على آبائكم أو أقربائكم فلا تمنعنكم القرابة ولا المنفعة عن أداء الشهادة على الوجه الأكمل – فإن الحق حاكم على كل إنسان.

          وإن يكن المشهود عليه غنياً فلا يراعي لغناه ، أو فقيراً فلا يمتنع من الشهادة عليه ترحماً وإشفاقاً – فالله أولى بالغنى والفقير وأعلم بما فيه صلاحهما – فراعوا بأمر الله فيما أمركم به فإنه أعلم بمصالح العباد منكم – ويجب عليكم إلزام العدل على كل حال.

لذلــــــــــــــك:

          فإن الحكم الذى سوف يصدره سعد هو حكم يتناسب مع جرمهم وخيانتهم ، ومن المعلوم أن المحافل الدولية تضع قواعد وعقوبات محددة لمن يخون الدولة أيام الحرب – إذا كانت الدول قد توصلت إلى ذلك أفنستكثر على المسلمين أن يكون حكمهم صائباً وهم الذين عاشوا في روضة الإسلام وتتلمذوا على يد أفضل نبي وخير من مشى على الأرض وعرفته الإنسانية بالعدل ومدحه الحق سبحانه وتعالى في سورة القلم الآية (4):

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

ووقف سعد يسأل هل ينزل الناس على حكمه؟؟

          قالوا:  نعم – وقد كان هذا الكلام من سعد موجها إلى بني قريظة وإلى قبيلة (الأوس) ليستوثق أنهم لن يشغبوا عليه.

          ثم اتجه إلى الناحية التى فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو معرض عن رسول الله – إجلالاً وإكباراً واحتراماً وتوقيراً – وقال وعلي من ها هنا.  فقال النبى – صلى الله عليه وسلم:  (نعم).

          واليهود يدركون أن ما فعلوه يستحق الإعدام إلا أنه يتشبثون بحلفائهم ليشفعوا لهم وقد فعلوا لكنهم يدركون تماماً ما قالوه لسعد وقت الأزمة – لهذا كانت اللحظات تمر رهيبة.

          وأرهف اليهود آذانهم ليستمعوا إلى الكلمة النهائية التى تحدد مصيرهم وسمروا أبصارهم على سعد في جزع وقلق.

          والنبى العظيم محمد – صلى الله عليه وسلم – الذى طالما تسامح وصفح حتى عندما دسوا له السم في الطعام وتطاولوا على شخصيته العظيمة وعلى نسآئه الأطهار – لم يكن يدري النبى – صلى الله عليه وسلم – ما سوف ينطق به سعد – لذلك كان ينظر إليه سائلاً الله سبحانه أن يلهمه التوفيق والسداد.

الحكــــــم:

          سعد بن معاذ مفوض من الجميع وحكمه نافذ وقد رضى به الجميع حكماً – وحكمه نهائي لا تعقيب عليه إذاً.   (حكم نافذ ليس له نقض).

أولاً:  إعدام جميع الرجال كل من بلغ الحلم من بني قريظة ضرباً بالسيف.

ثانياً: تسبى نساؤهم وذراريهم.

ثالثاً:  تُصادر جميع ممتلكاتهم على أن يكون ذلك غنيمة للمسلمين المحاربين الذين شاركوا في حصار اليهود.

رابعاً:  أن تكون ديار يهود بني قريظة كلها للمهاجرين دون الأنصار والسبب:  لأن المهاجرين ليس لهم في المدينة بيوت.

          وقد صدر الحكم من سعد على اليهود بما يستحقون ، ولم يبد قومه (الأوس) أية معارضة.

          واليهود لم يعترضوا – لماذا؟  لأنهم يدركون تماماً الجرم الذى أرتكبوه والخطأ ، أما النبى العظيم محمد الذى امتلأ قلبه بالرحمة والعطف على الجميع قال بعد ما استمع لحكم سعد:       (حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات).

تنفيذ الحكم:

          أمر النبى – صلى الله عليه وسلم – بحفر خنادق عميقة لتدفن فيها جثث هؤلاء الخونة بعد إعدامهم – وكان عددهم ما بين 800 إلى 900 ، ولقد أعُدم هؤلاء اليهود في ليلة واحدة – والذى تولى عملية الإشراف هو علي بن أبي طالب – والزبير بن العوام – وقد أضيئت مشاعل من سعف النخيل.

          وأشترك الأوس في عملية الإعدام لماذا؟  لأنهم يدركون تماماً أن الجزاء من جنس العمل وقد أرادوا بهذا الإشتراك الإعلان عن موافقتهم على الحكم لأنه يناسب جرمهم.

كيف كان حال حيي بن أخطب عند الإعدام؟

          هذا الرجل لم يخفى بغضه وحقده للنبى الأعظم وحقده عليه – فعندما أتى به لم يظهر عليه أثر الخوف وأنه على جانب كبير من الشجاعة والثبات وكان يلبس حلة لون الورد وقد شقها من كل ناحية حتى لا يلبسها أحد من بعده.

          واتجه هذا الرجل فنظر إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال:

          (أما والله ما لُمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذله) ، ثم قال:  (أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبه الله على بني إسرائيل).

          هذا الإنسان الحاقد لم يشر إلى أن الجزاء من جنس العمل وما ربك بظلام للعبيد.

من هو حيي بن أخطب؟  هو زعيم من زعماء بني النضير – وكان قد دخل مع يهود بني قريظة في حصنهم ليجعلهم لا يستسلمون لمحمد ولا لحكمه – (2) وحُيي هذا هو من الذين شاركوا في الوفد الذى تحرك على الساحة العربية وحزب الأحزاب وجمع الجموع.

زعيم بني قريظة:  (كعب بن أسعد)

          كان على جانب كبير من العقل وبعد النظر ، كان يميل إلى الإسلام لكن صديقه حُيي بن أخطب انحرف به عن الخط المستقيم.

          وكان يتميز بعفة اللسان – ووفرة الأدب – فلما جئ به ليقتل قال له النبى – صلى الله عليه وسلم:  (يا كعب).  قال:  نعم يا أبا القاسم.  قال النبى:  (ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم وكان مصدقاً بي أما أمركم بإتباعي وإن رأيتموني تقرؤوني السلام؟).

          قال كعب: (بلي والتوراة يا أبا القاسم ، ولو أن تعيرني اليهود بالخوف والجزع من السيف لأتبعتك).

من هو بن خراش؟

          هو حبر من أحبار اليهود الكبار مات قبل ظهور النبى – صلى الله عليه وسلم – وكانت وصيته لأتباعه (1) أن تتبعوا النبى – العربي ، (2) وتقرأوا عليه السلام من خراش.

          ولم ينجُ من القتل إلا رجل واحد وهو رفاعه بن سموءل القرظي ، شفعت له عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – امرأة فقبل شفاعتها وهي (سلمى بنت قيس) من السابقات إلى الإسلام – وبايعت بيعة النسآء ، وهذا الرجل لاذ بها ووعدها بدخوله في الإسلام وقد أسلم فعلاً.

          وهذه القصة تبين لنا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يحب العفو لأنه خُلق من أخلاقه.

هناك امرأة وحيدة هي التى أُعدمت لماذا؟؟   وما هي حكايتها؟؟

          إن الحرب في الإسلام تحرم تحريماً قاطعاً قتل نسآء العدو إلا حداً أو في الميدان (إذا كانت المرأة تقاتل مع الجند).

          ولكن هناك امرأة وحيدة من نسآء بني قريظة أمر النبى – صلى الله عليه وسلم بقتلها واسمها (مزنة).

          هذه المرأة ساعة تنفيذ حكم الإعدام في رجال بني قريظة كانت موجودة في بيت السيدة عائشة – رضي الله عنها.

          ذهب أحد الجند من المسلمين ينادي عليها باسمها من بين نسآء بني قريظة ، وقالت:  أنا – قالت لها السيدة عائشة:  (ويلك مالك؟).  قالت: أُقتل ، قتلني زوجي.

          قالت عائشة – رضي الله عنها:  وكيف قتلك زوجك؟  قالت:  إنى كنت زوجة رجل من بني قريظة وكان بيني وبينه كأشد ما يتحاب الزوجان – فلما أشتد أمر الحصار قلت لزوجي: ياحسرتي على أيام الوصال – كادت أن تنقضي وتتبدل بليال الفراق – فما أصنع بالحياة بعدك؟   فقال زوجي إن كنت صادقة في دعوى المحبة فإن جماعة من المسلمين جالسون في ظل الحصن فألقي عليهم حجر الرحى لعله يصيب واحداً منهم.

          وهذا يدل على أن الرجل حرض زوجته وكان يعرف أن الجريمة التى أرتكبها قومه تستحق الإعدام فطلب من زوجته أن تفعل ذلك لتقتل معه.

          ثم انطلقت إلى مكان الإعدام فضرب عنقها وقُتلت جزاء وفاقاً لفعلتها النكراء ولأنها قتلت مسلماً.

موقف إنساني نبيل:

          كانت هناك فتاة تسمى (صفية) ابنه اليهودي الذى اتسم بالحقد والعداوة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – (حُيي بن أخطب) وكانت متزوجة بابن أبي الحقيق (كنانة بن الربيع) وقد قتل يوم خيبر – هذه المرأة أبوها من زعماء القوم وزوجها شاعر فحل – وكانت السيدة صفية قد وقعت أسيرة وكانت من نصيب الصحابي الجليل (دحية) لكن رجلاً من الصحابة قال للنبي – صلى الله عليه وسلم:  إن صفية بنت حيي سيدة بني قريظة والنضير ما تصلح إلا لك لأنها كانت بنت أمير القوم ومن أعقلهم وأصيبت في أعز أهلها ونحن قوم شعارنا (أكرموا عزيز قوم ذل).

          فأرسل النبى – صلى الله عليه وسلم – إلى (دحية) وقال له أترك صفية وخذ جارية غيرها فأستجاب الصحابي – (سمعاً وطاعة).

          وقد اعتق الرسول – صلى الله عليه وسلم – صفية وتزوجها (1) وأصبحت من أمهات المؤمنين – (2) وقد أسلمت وحسُن إسلامها ، (3) وروت الكثير من أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم ، (4) وكانت صوامة قوامة تكثر من التهجد والتنقل والصيام ، (5) وتجلس على مائدة القرآن تغذى روحها وتصل نفسها بربها.

          ولقد كانت سيدتنا صفية – رضي الله عنها – (1) من خيرة أمهات المؤمنين ، (2)من أرجحهن عقلاً.

          وعندما تزوجها الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقف أبو أيوب خالد بن زيد على باب الحجرة مُتوشحاً بسيفه يطوف بجدران البيت – على غير علم من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما أصبح الصباح وجده رسول الله مازال يقظاً سأله مالك يا أبا أيوب؟.  فقال:  يارسول الله خفت عليك من هذه المرأة لأن (1) أباها قتل وزوجها قتل ، (2) وكثير من رجال قومها ، (3) وهي حديثة عهد بكفر فخفت عليك منها.

          فدعا له الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقال:  (اللهم أحفظ أبا أيوب كما بات يحفظني).

توزيع الغنائم:

          شكلت لجنة كبيرة من الصحابة رضوان الله عليهم للقيام بجرد وإحصاء جميع أموال بني قريظة من ديار وسلاح وأثاث ومزارع وخيول وجمال ، (2) وقد وجدت اللجنة أن كثير من الخمر معبأ في جرار مخزون فأمر النبى – صلى الله عليه وسلم – بعدم حصرها وإراقتها على الفور.

          ثم أمر النبى – صلى الله عليه وسلم – بتوزيع الغنائم حسب القانون الإلهي وهو قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الأنفال الآية (41):

(وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).

          فالغنائم قسمت على خمس أقسام:

(1)قسم يبقى تحت تصرف النبى – صلى الله عليه وسلم – يتصرف فيه حسبما تقتضيه المصلحة العامة.

          وأربعة أقسام توزع أسهما على المحاربين الذين بسيوفهم جآءت الغنائم.

معاملة إنسانية:

          عند توزيع الغنائم على المحاربين أصدر النبي – صلى الله عليه وسلم – أمراً عاماً بأنه:

(1)            لا يفرق بين أم وولدها.

(2)            لا يفرق بين أخ وأخيه ماداما صغيرين.

(3)            سار هذا المبدأ من المبادئ الهامة التى يتمسك بها المسلمون إلى أن تقوم الساعة.

لما رواه الترمذي في صحيحه أن النبى – صلى الله عليه وسلم قال:

(من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة).

عن عُبادة بن الصامت قال:  قال النبى – صلى الله عليه وسلم:

(لا يفرق بين الوالدة وولدها فقيل إلى متى؟ قال: حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية).

          ونتيجة لهذه الأوامر النبوية كتب عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى قادة الجيوش العربية في الشام والعراق وغير ذلك يقول:

          (لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الأم وولدها في البيع لأنه ذو رحم).

          وهذه هي الشفقة في أحلى مقاماتها الإنسانية والرحمة بكل ما أشتملت عليه من حنان وعطف ورعاية.

          روي الترمذي عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال:

          (وهب لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غلامين صغيرين فبعت أحدهما فقال ما فعل غلامك فقلت بعته ، فقال: (رده رده) ، فكأن النبى – صلى الله عليه وسلم – أستنكر التفريق بين الأخ وأخيه ماداما صغيرين).

 

((  والحمدلله رب العالمين  ))

 

                  

 

اترك تعليقاً