بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى.
أما بعد ،،،
فإذا ذكرت الصالحين تعطرت المجالس ، وإذا ذكرت الطالحين تعكرت المجالس. قال أبوهريره – رضي الله عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس ، لا يذكرون الله فيه ، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار ، وكان لهم حسرة).
مولده:
هو عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أُمية ، ولد سنة 61هـ في المدينة المنورة ، ونشأ فيها وعاش وتربى في كنف أخواله من آل عمر بن الخطاب.
وهو ثامن الخلفاء الأمويين وخامس الخلفاء الراشدين ، وسمى بالخليفة الرشيد ، لأنه كان يتبع أساليب الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فى حكمهم وعدلهم.
كان والده عبدالعزيز بن مروان كان أميراً من خيار أمراء بني أُمية وأمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.
كان مُقبل بشدة على طلب العلم ، وتولى إمارة المدينة المنورة من قبل الخليفة الوليد بن عبدالملك عام 87 هـ – وكان عمره 26 سنة وضم إلهي ولاية الطائف وذلك في عام 91 هـ – حتى أصبح والياً على الحجاز ، ثم عُزل عنها ورحل لدمشق ، وأصبح وزيراً ومستشاراً للخليفة سُليمان بن عبدالملك ، ثم أصبح ولي عهده ومات الخليفة سُليمان 99هـ ، فتولى عمر الخلافة بعد ذلك واستمرت خلافته لعام 101. 29 شهراً (سنتين وخمسة أشهر).
أعمال عمر:
(1)حقق العدل ، (2) وحسن أحوال المسلمين ، (3) تعمد السنة النبوية ، (4) أهتم بالصغير والكبير ، فأستحق بذلك ما أطلقه عليه بعض علماء المسلمين بأنه الخليفة الراشد الخامس.
وقد ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم: (أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها).
وقد ذكر العديد من العلماء ومن بينهم أحمد بن حنبل أن المجدد على رأس المئة سنة الأولى كان عمر بن عبدالعزيز ، وقد عز الإسلام في عهده ولم يدخر جهداً في دفع ظلم أو نشر العلم والخير للدعوة والدين الإسلامي.
أعماله أثناء حكمه للمدينة المنورة:
(1)جدد المسجد النبوي وتحسين عمارته ، (2) تدوين السنة النبوية – وقد أخرج البخاري في صحيحه (كتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبي بكر بن حزم:
(أنظر ما كان من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاكتبه فإني خفت دروس العلم ، وذهاب العلماء).
(3)إحترام حقوق الإنسان وذوى الإحتياجات الخاصة: (أ) إذ جعل لكل مريضين خادماً يقوم على راحتهما ، (ب) وعين لكل خمسة أيتام خادماً ، (ج) وعين لكل أعمى خادماً يعينه ويقضي حاجته.
ماذا قال عمر بن الخطاب عن عمر بن عبدالعزيز؟
(إن من ولدي رجلاً بوجهه جرح ، يملأ الأرض عدلاً).
قالت فاطمة زوجته: (ما رأيتُ أحداً اكثر صلاةً ولا صيامً منه).
وما قاله عم لولاته:
(أتركوا أعمالكم عند حضور الصلاة ، فإن من أضاع الصلاة كان لما سواها أضيع).
(2)الخمر باب الخطايا ، فحرموا كل مسكر ، (3) كافحوا التطفيف في المكيال والبخس في الميزان ، (4) افتحوا للمسلمين باب الهجرة ، (5) دعوا الناس يتجروا بأموالهم في البر والبحر ، لا تحولوا بين عباد الله ومعايشهم.
وهناك من الحكايات التى سجلها التاريخ لعمر بن عبدالعزيز كما يرويها أصحابها:
أولاً: ما رواه شيخه الصالح عبيد الله بن عبدالله بن عتبه:
وحدث يوماً أن عمر بن عبدالعزيز ذكر الإمام بسوء (الإمام علي بن أبي طالب) متأثراً بموقف الأمويين من الإمام وهو غلام صغير. وذات يوم ذهب الغلام لزيارة الشيخ فأعرض عنه ولم يغمره بما عوده من ود.
وعرف الغلام أن في نفس الشيخ شيئاً منه ، فأنفجر فيه شيخه قائلاً: (متى علمت أن الله سخط على أهل بدر ، بعد أن رضى عنهم؟ فهم عمر أن أدنى مزايا (الإمام علي).. أقل فضائله وخصائصه أنه من أهل بدر الذين أخبر الرسول أن الله نظر إليهم فقال لهم: (أعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم).
قال له في خشوع وندم: (معذرة إلى الله .. ثم إليك ، ووالله لا أعود لمثلها أبداً).
ثانياً: ما رواه سلمة بن دينار:
من هو سلمة ، عالم المدينة ، وقاضيها وشيخها أبو حازم ، فقال: قدمت على خليفة المسلمين عمر بن العزيز وهو ببلدة من أعمال حلب ، وكانت قد تقدم به السن ، وبعد بيني وبين لقائه العهد ، فوجدته في صدر البيت ، غير أني لم أعرفه ، لتغير حاله عما عهدته عليه ، يوم كان والياً على المدينة ، فرحب بي وقال: أدن مني يا أبا حازم هذا الخليفة العظيم من خصائصه: أنه قرب العلماء ، وأبعد الشعراء بل إنه عين عالماً جليلاً مستشاراً ، ومرافقاً له ، وكانت وظيفته كما قال له الخليفة سيدنا عمر:
(كن معي ، وانظر في أحكامي ، فإن رأيتني ضللت ، فأمسكني من تلابيبي وهزني هزاً شديداً ، وقل لي: إتق الله يا عمر ، فإنك ستموت) وهذه وظيفتك.
قال أبو حازم (سلمة) فلما دنوت منه قلت: ألست أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز؟ فقال: بلا ، فقلت: ما الذى غير ما بك بعد أن غدوت تملك الأصفر والأبيض (الذهب والفضة) وأصبحت أمير المؤمنين؟ وجلدك الذى أخشوشن ، ووجهك الذى أصفر وعيناك اللتان خابتا ، فبكى عمر وقال: (يا أبا حازم ، فكيف لو رأيتني في قبري بعد ثلاث وقد سالت حدقتاي على وجنتي ، وتفسخ بطني وتشقق ، وأنطلق الدود يرتع في بدني ، لكنت أشد إنكاراً لي من إنكارك هذا؟).
يقال: إن سيدنا عمر بن عبدالعزيز ما دخل إلى مجلس الخلافة إلا تلا هذه الآيات من سورة الشعراء الآية (205 : 207):
( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
بمعنى: أخبرهم يا محمد إن متعناهم سنين طويلة ، مع وفور الصحة ، ورغد العيش ، ثم جآءهم العذاب الذى وُعدوا به ماذا ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معاشهم؟ هل ينفعهم ذلك النعيم في تخفيف الحزن أو دفع العذاب؟.
ثم رفع بصره إلى وقال: ألا تذكر حديثاً كنت حدثتني به في المدينة يا أبا حازم؟ فقلت: لقد حدثتك بأحاديث كثيرة يا أمير المؤمنين ، فأيها تقصد؟ فقال: (إنه حديث رواه أبو هريره) ، فقلت: نعم أذكر يا أمير المؤمنين. فقال: أعده علي ، فإني أريد أن أسمعه منك. فقلت: سمعتُ أبا هريرة – يقول سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين أيدكم عقبة كؤوداً ضروساً ، لن يجوزها إلا كل ضامر مهزول) وهذا يذكرنا بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم أيضاً: (يا أبا ذر ، جدد السفينة ، فإن البحر عميق ، وخفف الأثقال ، فإن في الطريق عقبة كؤود ، لا يجتازها إلا المخففون ، أخلص النية ، فإن الناقد بصير ، وأكثر الزاد ، فإن السفر بعيد).
فبكى عمر بكاءً شديداً ، خشيت معه أن تنشق مرارته ، ثم كفكف دموعه وألتفت إلي وقال: (فهل تلومني يا أبا حازم ، إذا أنا أهزلت نفسي بتلك العقبة ، رجاء أن أنجو منها ، وما أظنني بناج؟).
ثالثاً: كما رواه الطبري عن الطفيلي بن مرداس:
إن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز حين ولى الخلافة ، كتب إلى سليمان كتاباً فيه: (إتخذ في بلادك فنادق لاستضافة المسلمين ، فإذا مر بها أحد منهم (1) فأستضيفوه يوماً وليله ، وأصلحوا شأنه ، (2) فإذا كان يشكو نصباً ، فأستضيفوه يومين وليلتين ، وواسوه فإذا كان منقطعاً لا مؤونه عنده ، ولا زاد فأعطوه ما يسد حاجته ، وأوصلوه إلى بلده ، فأقام الوالي الفنادق التى أمر بإعدادها عمر بن عبدالعزيز فسرت أخبارها في كل مكان ، وطفق الناس في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها يتحدثون عنه ، ويشيدون بعدل الخليفة وتقواه ، فما كان من أعيان أهل سمرقند (هي مدينة الآن في الإتحاد السوفيتي) إلا أن وفدوا على واليها سليمان ، وقالوا: إن سلفك الوالي الذى قبلك قريبة بن مسلم الباهلي ، قد دهم بلادنا من غير إنذار ، ولم يسلك في حربنا ما تسلكوه معشر المسلمين ، فقد عرفنا أنكم تدعون أعداءكم إلى الدخول في الإسلام ، فإن أبوا فأدعوهم إلى دفع الجزية ، فأن أبوا أعلنتم عليهم القتال ، وإن قد رأينا من عدل خليفتكم وتقاه ما أغرانا بشكوى جيشكم إليكم والإستنصار بكم على ما مأنزله بنا قائد من قوادكم ، فأذن أيها الأمير بوفد منا أن يفد على خليفتكم ، وأن نرفع ظلامتنا إليه ، فإن كان لنا حق أعطيناه ، وإن لم يكن عدنا من حيث ذهبنا.
فأذن سليمان لوفد منهم بالقدوم على الخليفة فى دمشق ، فكتب الخليفة كتاباً إلى واليه سليمان يقول فيه:
أما بعد (فإن جاءك كتابي هذا فأجلس إلى أهل سمرقند قاضياً ينظر في شكواهم ، فإن قضى لهم فأمر جيش المسلمين بأن يغادر مدينتهم ، وضع المسلمين المقيمين بينهم من النزوح عنهم ، وعودوا كما كنتم ، وكانوا قبل أن يدخل ديارهم قُتيبه بن مسلم الباهلي).
فلما قدم الوفد على سليمان ، ودفع إليه كتاب أمير المؤمنين ، فأجلس لهم قاضي القضاة ثم نظر في شكواهم ، استقصى أخبارهم ، وأستمع إلى شهادة طائفة من جند المسلمين ، وقادتهم فأستبان له صحة دعواهم وقضى لهم ، وحكم هذا القاضي أن (1)يخرج هذا الجيش الكبير من سمرقند إلى خارجها ، عند ذلك أمر الوالي جند المسلمين بأن يخلوا لهم ديارهم ، وأن يعودوا إلى معسكراتهم ، فإما أن يدخلوا بلادهم صلحاً ، وإما أن يظفروا بها حرباً ، ولا يدخلوها لو إنهزموا.
فلما سمع أعيان القوم م، حكم قاضي القضاة قال بعضهم لبعض: (ويحكم! لقد خالطتم هؤلاء القوم وأقمتم معهم ، ورأيتم من سيرتهم وعدلهم وصدقهم ما رأيتم فأستبقوهم عندكم).
هذا هو الإسلام ، فالعدل ، والرحمة ، والإحسان جعل أهل سمرقند يطلبون إلغاء الحكم ، وأن يبقى هذا الجيش في بلادهم ، وطيبوا بمعاشرتهم نفسياً ، وقروا بصحبتهم عيناً.
الشريعة الإسلامية عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، فإذا خرجت الشريعة من العدل إلى الظلم ومن الرحمة إلى القسوة ومن المصالح إلى ضدها ، فليست من الشريعة.
رابعاً: ما رواه ابن عبدالحكم في كتابه سيرة عمر بن عبدالعزيز:
فيقول: لما حضرت عم الوفاة دخل عليه عكرمة بن عبدالملك وقال: إنك يا أمير المؤمنين ، قد فطمت أفواه أولادك عن هذا المال ، حرمتهم هذا الذى بين يديك ، فحبذا لو أوصيت بهم إلى ، أو إلى من تفضله من أهل بيتك ، قال عمر:
(أجلسوني فأجلسوه فقال: قد سمعت مقالتك ياعكرمة ، فإني والله (1) ما منعتهم حق هو لهم ، ولم أكن لأعطيهم شيئاً ليس لهم ، وأما قولك: لو أوصيت بهم إلى أو إلى من تفضله من أهل بيتك فإنما وصي وولى فيهم الله ، الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين).
فأسمعوا إلى هذا الحديث القدسي:
(إن الله سبحانه وتعالى يوقف عبدين يوم القيامة ، يقول لأحدهم: عبدي أعطيتك مالاً ، فماذا صنعت به؟ يقول هذا العبد: يارب لم أنفق منه شيئاً على أحد مخافة الفقر على أولادي من بعدي ، فيقول الله عز وجل: (ألم تعلم بأني أنا الرزاق ذو القوة المتين؟ إن الذى خشيته على أولادك من بعدك ، قد أنزلته بهم) ويسأل العبد الآخر يقول له: يارب أنفقته على كل محتاج ومسكين لثقتي بأنك خير حافظاً ، وأنت أرحم الراحمين ، فيقول الله عز وجل: (أنا الحافظ لأولادك من بعدك).
قال عمر بن العزيز: وأعلم يا عكرمة أن أبنائي أحد رجلين أما رجل صالح متق ، فسيعينه الله من فضله ، ويجعل له من أمره مخرجاً ، وأما رجل طالح ، مكب على المعاصي فلن أكون من يعينه بالمال على معصية الله عز وجل ، ثم قال: أدع لي بني ، فدعوهم ، وكان عددهم بضعة عشر (12/14) فلما رآهم ترقرقت عيناه ، وقال: بنفسي فتية تركتهم عالة لاشئ لهم ، ثم ألتفت إليهم وقال: أي بني ، إني قد تركت لكم خيراً كثير فإنكم لا تمرون بأحد من المسلمين أو أهل ذمتهم إلا رأوا أن لكم عليهم حقاً.
يا بني إن أمامكم خياراً بين أمرين ، فإما أن تستغنوا ، أن تصبحوا أغنياء ويدخل أبوكم النار ، وإما أن تفتقروا ، ويدخل أبوكم الجنة ، ثم نظر إليهم برفق ، وقال: قوموا عصمكم الله ، قوموا رزقكم الله ، فألتفت إليه مسلمة وقال: يا أمير المؤمنين عندي ما هو خير من ذلك ، فقال عمر: وما هو؟ قال مسلمة: لدى ثلاثمائة ألف دينار ، وإني أهبها لك ، ففرقها أنت ، أو تصدق بها إذا شئت ، فقال له عمر: أو خير من ذلك يا مسلمة ، فترقرقت عينا مسلمة وقال: رحمك الله يا أمير المؤمنين حياً وميتاً ، فقد ألنت منا قلوباً قاسية ، وذكرتها ، وقد كانت ناسية ، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا.
تتبع الناس أخبار أبناء عمر بن عبدالعزيز من بعده ، فرأوا أنه ما أحتاج أحد منهم ولا أفتقر.
والله عز وجل يقول في سورة النسآء الآية (9):
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
بمعنى: نزلت في الأوصياء أي تذكر أيها الوصي ذريتك الضعاف من بعدك وكيف يكون حالهم وعامل ايتامي الذين في حجرك بمثل ما تريد أن يُعامل به أبناؤك بعد موتك ، فليتقوا الله في أمر اليتامى وليقولوا لهم ما يقولونه لأولادهم من عبارات العطف والحنان.
أعلموا أن هذا الدرس لنا جميعاً ، كل واحد له أولاد ، أكسب مالاً حلالاً ، أتق الله واستقم على أمره ، والله سبحانه وتعالى يقول لك: أنا حافظ لأولادك من بعدك ، ولا تحفظ لهم المال من حرام.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(إن روح الميت ، ترفرف فوق النعش ، تقول: يا أهلي ، يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حل وحرم فأنفقته في حله ، وفي غير حله ، فالهناء لكم ، والتبعة علي).
إذاً هي روشــــتة:
(1)إتق الله ، (2) أكسب مالاً حلالاً ، (3) أنفق من هذا المال في سبيل الله.
النتيجة: الله سبحانه وتعالى يتولى أمر اولادك من بعدك.
خامساً: موقف عمر بن عبدالعزيز من عمته:
كانت عمته (أم عمرو) بنت مروان – وهي صاحبة دالة على خلفاء بني مروان وأمرائهم ، وكانت أثيرة لدى – عمر بن عبدالعزيز.
وحين ألغى كل مخصصات بني مروان ، ألغى مُخصصاتها أيضاً فسارعت إليه وفوجئت به جالساً يتناول طعام عشائه ، وراحت تُحملق بعينيها لا تكاد تصدق ما تراه (خبز جاف وطبق عدس) ودارت بها الأرض – أهذا هو عمر الذى كان يخوض في النعيم خوضاً؟ فأجهشت بالبكاء ثم قالت: (لقد جئتك في حاجة لي ولكني لم أكد أراك حتى رأيت أن أبدأ بك قبل نفسي).
قال الخليفة: ما ذاك ياعمة؟ قالت: لو اتخذت لك طعاماً ألين من هذا؟ قال: لا أملك غيره يا عمة ، ولو كان عندي لفعلت. قالت: إن عمك عبدالملك كان يُعطيني ثم كان أخوك الوليد فزادني ثم كان سليمان فزادني .. ثم وليت أنت فقطعته عني).
فقال: يا عمة: إن عمي عبدالملك وأخي الوليد وأخي سليمان كانوا يعطونك من مال المسلمين وليس ذلك المال لي فأعطيك له ، ولكني أعطيك مالي إن شئت ، قالت: وما مالك يا أمير المؤمنين. قال: عطائي مائتا دينار في العام ، قالت: وما يبلغ مني عطاؤك؟ ثم أنصرفت عنه يائسة ، بائسة ، وهي التى كان الخلفاء ينحنون لرغبتها ويُسارعون إلى هواها.
سادساً: تروي زوجته فاطمة بنت عبدالملك هذه الواقعة:
دخلت عليه يوماً ، وهو جالس في مُصلاه ، واضعاً خده على يده ، ودموعه تسيل فقلت له: ما بالك ، وفيم بكاؤك؟ فقال: ويحك يا فاطمة .. إني قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت. ففكرت في (1) الفقير الجائع ، (2) والمريض الضائع ، (3)والعاري واليتيم المكسور ، (4) والمظلوم المكسور ، (5) والغريب ، (6) والأسير ، (7) والشيخ الكبير ، (8) والأرملة الوحيدة ، (9) وذى العيال الكثير والرزق القليل.
إن قلبه الورع الذكي الكبير ، مع كل فرد من أمته.
قصة وفاة عمر
هنا لك ائتمروا به كما تحدث بعض كتب التاريخ ، إنه مرض بعد أن وضع له غلام السم في شرابه بتحريض من بني أمية وقد أحس به عمر فور أن شربه ، ونادى عمر الغلام وقال له: لم وضعت السم في شرابي؟ فرد الغلام: مقابل ألف دينار والعتق ، فقال له عمر: هات الألف دينار ووضعها في بيت مال المسلمين وأعتقه ، وأخبره أذهب إلى حيث لا أحد يعرف.
وأشتد به المرض ، وتحولت الملايين من أبناء أمته إلى أطفال ، يوشك اليتم أن يحيق بهم حين يفقدون أباهم ، الجياع ، الذين شبعوا ، والعُراة الذين أكتسوا ، والخائفون الذين أمنوا ، والمستضعفون الذين سادوا ، واليتامى الذين وجدوا فيه أباهم ، الأيامى ، اللائى وجدن فيه عائلهن وأخاهن.
كل هؤلاء الناس سحقتهم أنباء مرضه الداهم حتى أن إمبراطور الروم العدو اللدود لدولة العرب والإسلام ، يرسل كبير أساقفته ، وكان بالطب خبيراً ، ويرجوه أن يصنع المستحيل لإنقاذ حياة الخليفة العادل والجار الطيب ، وتوفى عمر بعد عشرين يوماً من المرض بدير سمعان بالشام يوم الجمعة عام 101 بعد فترة حكم أستمرت تسعة عشرين شهراً (سنتين وخمسة أشهر) وفي يوم وفاة برق بصره وصوب عينيه تجاه الباب ، وكان يحرك كفيه ويشير بهما إشارة من يُحيي ضيوفاً قادمين – لقد كانت بعثة شرف من الملائكة المقربين جاءت تصحب هذا القديس في جنات الخلد وفردوس الله.
وسمعه أهله وهو يردد الآية الكريمة:
(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون عُلواً في الأرض ولا فساد والعاقبة للمتقين)
(( والحمدلله رب العالمين ))
v