أم المؤمنين عائشة بنت أبى بكر (رضى الله عنها)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين.

أما بعد:

فبنت أبى بكر الصديق – رضى الله عنهما – وهى أحبُ نسآء االنبى – صلى الله عليه وسلم – إلى قلبه ، حبيببة المصطفى ، الصديقة بنت الصديق ، أبوها صاحب الرسول فى الغار مصداقاً لقوله تعالى فى سورة التوبة (40):

 (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) 

وأمها:  أم رومان بنت عامر كانت زوجة فاضلة وأما بارة وسيدة حكيمة قال عنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور فلينظر إلى أم رومان)  االطبقات الكبرى لابن سعد صـ 277.

وهى من الصحابيات الجليلات كانت قد تزوجت فى الجاهلية من عبدالله بن الحارث الأسدى فولدت له الطفيل ، ثم توفى عنها فخلف عليها أبوبكر فولدت له عائشة وعبدالرحمن ، وهاجرت إلى المدينة بعد أن أستقر مقام الرسول وصاحبه بها.

الزواج المبارك

      وقال الإمام أحمد عن عائشة:  (لما هلكت خديجة جآءت (خولة بنت حكيم) امرأة عثمان بن مظعون فقالت: (يارسول الله ألا تتزوج ؟) قال: (من) قالت إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً.  قال: فمن البكر ؟ ومن االثيب ؟ قالت: البكر بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبى بكر ، وأما االثيب فهى سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك.

قال: (فاذهبى فاذكريها على) ، (فجآءت خوله ، فدخلت بيت أبى بكر فوجدت (أم رومان) فقالت: ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة ؟ قالت:  وماذاك ؟ قالت خولة: أرسلنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة قالت أم رومان: انظرى أبابكر حتى يأتى فجآء أبوبكر فقلت: يا أبابكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة ، قال وماذاك ؟ قالت: أرسلنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخطب عليه عائشة.  قال وهل تصلح له ؟ إنما هى ابنة أخيه فرجعت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكرت ذلك له.

قال: (ارجعى إليه فقولى له: أنا أخوك وأنت أخى فى الإسلام وابنتك تصلح لى).  فرجعت فذكرت ذلك له قال: انتظرينى وخرج قالت أم رومان: إن مطعم بن عدى قد ذكرها على ابنه ووالله ما وعد أبوبكر وعداً قط فأخلفه.  فدخل أبوبكر على (مطعم بن عدى) وعنده امرأته أم الصبى فقالت: يا ابن أبى قحافة لعلك مصبئ صاحبنا تدخله فى دينك قال أبو بكر: ماذا تقول هذه ؟ قال: إنها تقول ذلك؟ فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان فى نفسه من وعديه الذي وعده ، فرجع وقال لخولة: (ادعى لى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فدعته فزوجها إياه)

وفى الصحيحين من حديث عائشة – رضى الله عنها أن النبى – صلى الله عليه وسلم قال لها: (أريتك فى المنام مرتين ، أرى أنك فى شقة بيضاء من حرير ويقول: هذه امرأتك ، فأكشف عنها فإذا هى أنت ، فأقول: إن يك هذا من عندالله يمضه)

العـروس

بعد أن أستقر – صلى الله عليه وسلم – فى دار هجرته (المدينة) ، بعث (زيد بن حارثة) إلى مكة ليصحب بنات النبى – صلى الله عليه وسلم ، ومعه رسالة من (أبى بكر) إلى ابنه عبدالله ، يطلب إليه فيها أن يلحق به مصطحباً زوجته (أم رومان) وابنتيه: أسماء وعائشة ، وكان مع زيد (أبو رافع) مولى النبى – صلى الله عليه وسلم.

وتصف عائشة يوم عرسها فتقول:  (جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيتنا فاجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء ، فجآءتنى أمى وأنا فى أرجوحة ، فأنزلتنى ثم سوت شعرى ومسحت وجهى بشئ من مآء ، ثم أقبلت تقودنى حتى وقفت بى عند الباب ، ثم دخلت بى فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالس على سرير فى بيتنا وعنده رجال ونسآء من الأنصار فأجلسنى فى حجرة ، ثم قالت هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم وبارك لهم فيك ، فوثب الرجال والنسآء فخرجوا وبنى بى رسول الله فى بيتنا.

حتى أرسل إلينا (سعد بن عبادة) بجفنة(صنية بها طعام) كان يرسل بها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

(وصف عائشة)

      وكانت عائشة عروساً حلوة ، خفيفة الجسم ، ذات عينين واسعتين وشعر جعد ، ووجه مشرق مشرب بحمرة ، وكانت صغيرة السن.

يقول الإمام الذهبى – رحمه الله:  عائشة القرشية المكية النبوية أم المؤمنين – أفقه نسآء الأمة على الإطلاق ، كانت امرأة بيضاء جميلة ، يقال لها: الحميراء ولم يتزوج االنبى – صلى الله عليه وسلم – بكراً غيرها ، ولا أحب امرأة حبها ، ولا أعلم فى أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – بل ولا فى النسآء مطلقاً امرأة أعلم منها).

وقال أبو نعيم الأصبهانى:  الصديقة بنت الصديق ، العتيقة بنت العتيق حبيبة الحبيب وأليفة القريب سيد المرسلين محمد المبرأة فى كتاب الله.

ولقد عاشت عائشة – رضى الله عنها فى بيت النبوة حبيبة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قريبة إلى نفسه شيقة إلى قلبه ولا يفارقها حتى يعود إليها وقلبه مملوء بالشوق والحب لها.

وصف بيت عائشة وجهازها

وقد انتقلت إلى بيتها الجديد ، وما كان هذا البيت سوى حجرة من الحجرات التى شيدت حول المسجد ، من اللبن وسعف النخيل ، وضع فيه فراش من أدم (جلد) حشوه ليف ، ليس بينه وبين الأرض إلا الحصير – وعلى فتحة الباب أسدل ستار من الشعر (انظر فى صحيح مسلم).

إن السيدة عائشة – رضى الله عنها – قد أكتمل نموها فى هذا البيت (حجرة رسول الله) ونضجت شخصيتها ، وتدرجت بين عينى المصطفى من صبية يأتيها زوجها بصواحبها ليلعبن معها ، أويحملها على عاتقه (كتفه) لتطل على نفر من الحبشة يلعبون الحراب (صحيح البخاري) إلى شابة ناضجة مجربة، تسألها امرأة فى مسألة دقيقة من مسائل الزينة والتجميل ، فتجيبها: (إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعى مقلتيك (عينيك) فتضعيها أحسن مما هما فأفعلى ! وتكره أن تلقى امرأة زوجها فى كآبة االحداد ، وهى تروى الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا )( رواه البخاري ومسلم)

وتظل عائشة – رضى الله عنها – تبارك الشهر الذى خطبت فيه وتزوجته فيه ، وتختاره للنسآء قومها ، تفاولا به (شهر شوال).

الدليـل:فى صحيح مسلم حديث عروة بن الزبير عنها قالت: تزوجنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فى شوال ، وبنى بى فى شوال ، وقال عروة: وكانت عائشة تستحب أن تُدخل نساءها فى شوال)

(رواه ابن سعد من حديث عروة)

السيدة سودة لم تكن تشغل بال عائشة – رضى الله عنها – فى كثير أو قليل لماذا ؟  لأن لا مكان لسودة فى قلب الزوج (محمد صلى الله عليه وسلم)، وإنما الذى كان يشغل بالها هو ذلك الحب العميق الذى ظفرت به (خديجة) قبلها من زوجها – صلى الله عليه وسلم – وأشد ما كان يغيظ العروس الشابة ، أن خديجة بقيت تشاركها عواطف زوجها ، وهى راقدة فى مثواها بالحجون تحت ثرى مكة ، حاولت عائشة – رضى الله عنها – أن تتجاهل هذه الضرة التى ماتت، فلا تستطيع ، ذلك أن طيف خديجة بقى أمام عينى زوجها (الرسول) واسمها الحبيب على لسانه ، وصوتها فى مسمعه ، وذكراها حية ملء دنياه.

وزاد فى قسوة الموقف أن مضت الشهور والسنون ، وعائشة – رضى الله عنها – لا تنجب لزوجها ولداً (كتاب االنكاح فى صحيح مسلم) وهى ترى من تعلق الزوج ، (الذى أحبته جهد الحب )، ببنات خديجة ، ما يرهف شعورها بوطأة الحرمان تجثم على صدرها لولا ما يغمرها من عطف الزوج ومحبته ، وما يأخذها به إيمانها من تجمل بالصبر فيما لا حيلة لها فيه …

وألتفتت عائشة – رضى الله عنها – حولها تلتمس من أبناء أخواتها من تفيض عليه عواطف أمومتها المحرومة ، فأنزلت ابن أختها أسماء (عبدالله بن الزبير) منزلة الأبن ، وبه كانت تكنى فيقال: (أم عبدالله) ، وحين مات أخوها (عبدالرحمن) ضمت إليها ابنه القاسم وابنته الطفلة ، فيقول القاسم: (فما رأيت والدة قط أبر منها).

الضــرائر

وفى يوم من الأيام فوجئت عائشة بزوج جديدة تدخل بيت النبى – صلى الله عليه وسلم ، وتشغل االحجرة التالية لحجرتها وحجرة (سودة) وتشاركها فى حياتها الزوجية ، يوما بيوم وليلة بليلة.

(1)          إنها (حفصة) بنت عمر بن الخطاب الذى أعز الله الإسلام به, وروع (عائشة) أن يتزوج (محمد – صلى الله عليه وسلم) عليها ، وما تزوج قط على خديجة حتى ماتت فى الخامسة واالستين)

وجآءت من بعد (حفصة) زوجات أخريات ، حتى امتلأت بهن البيوت التسع.

(2)          ومنهن (زينب بنت جحش) االشابة الجميلة بنت عمة الرسول.

(3)          (أم سلمة بنت أبى أمية) االحسناء الأبية المترفعة.

(4)          (جويرية بنت االحارث) التى تأخذ االعين بملاحتها.

(5)          (صفية بنت حيى) سليلة االيهود ، االناعمة الساحرة.

(6)          (أم حبيبة) بنت أبى سفيان ، زعيم مكة وقائد جيشها.

(7)          (مارية) المصرية الجذابة ، أم إبراهيم بن محمد.

(8)          زينب أم المساكين – (كانت رحيمة بالمساكين والفقراء ، وبذلك استحقت هذا اللقب االعظيم أم المساكين).

(9)          ميمونة بنت الحارث الهلالية – حقق لها الله عز وجل – أمنية غالية وهى أن تكون أم المؤمنين

غيرة عائشة (رضى الله عنها)

توددت عائشة – رضى الله عنها – إلى (حفصة بنت عمر) ، واستجابت حفصة لهذا التودد – واتخذت عائشة من حفصة موضع سرها منذ سمعت بزواج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من (أم سلمة) ، فشكت لحفصة أنها وجدتها أجمل مما يقول االناس.

وهونت (حفصة) من خطر (أم سلمة) فإنها على جمالها كبيرة السن ، وإن الجمال ليذبل سريعاً فى مثل سنها

عائشة – رضى الله عنها – أدخرت غيرتها للشابة االشريفة االحسناء (زينب بنت جحش) فى الصحيحين من حديث عائشة قالت: (إن االنبى – صلى الله عليه وسلم) كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً ، فتواصيت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبى – صلى الله عليه وسلم – فلتقل:  إنى أجد منك ريح مغافير وأكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك (وكان لمغافير طعم حلو ورائحة كريهه ) فقال: (لا بل شربت عسلاً عند زينب ، ولن أعود له) ، فنزلت: (يآ أيها النبى لم تحرم مآ أحل اللهُ لك) سورة التحريم.الآية 1

ثانياً:  جآءت وافدات أُخريات شغلن (عائشة) حيناً عن أم سلمة وزينب ، وإن عرفت أن هاتين أحب نسآء االنبى إليه بعدها ..

ماذا كانت تفعل عائشة عندما تًغار؟

فكانت (أسماء بنت النعمان بن الأسود الكندية الجونية) التى أحست (عائشة) خطر جمالها منذ وقعت عليها عيناها ثم قررت أن تخلص منها قبل أن يتم الزواج ! ودعت إليها حفصة وسودة ممن يحرصن على إرضائها – واتفقن على خطة موحدة: اقبلن على االعروس مُهنئات ويوصينها بما تفعل وما تقول استجلاباً لرضى الزوج العظيم ومحبته – أن تستعيذ بالله إذا ما دخل عليها النبى الكريم – وفعلت المسكينة بهذه الوصية.

ولم تكد أسماء تراه مقبلا عليها ، حتى استعاذت بالله  فصرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجهه عنها وقال: (لقد عذت بمعاذ) وغادرها من لحظته وأمر أن تمتع وتلحق بأهلها.

بعث أبوها ، من يتوسط لردها ويحدث عما كان من نسائه معها فلم يملك النبى – صلى الله عليه وسلم – إلا أن يبتسم ويقول: (إنهن صواحب يوسف ، وإن كيدهن عظيم) ، وبقى عند كلمته ولم يرجعها.

الثانية:  (هى مارية) المصرية ، فلعل عائشة لم تأبه لها أول الأمر ولكن عندما نبأتها حفصة بما كان من خلوة – صلى الله عليه وسلم – بمارية فى بيت حفصه، فاسترضاها بأن حرم مارية على نفسه ، موصياً (حفصة) بكتمان ما كان (الطبقات لابن سعد) ، لكن حفصة لم تستطع أن تكتم سراً عن عائشة.

      اشتعلت النار فى عائشة وزادت فى غيرتها وبعض الزوجات لأن ماريا حملت دونهن من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وانجبت إبراهيم الذي مات صغيراً

عائشة تفتخر بعشر خصال:  لقد كانت رضى الله عنها تفخر على أزواج النبى – صلى الله عليه وسلم – بعشر خصال فكانت تقول:

(1)          صُورت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم قبل أن أصور فى رحم أمى.

(2)          تزوجنى بكراً ولم يتزوج بكراً غيرى.

(3)          كان ينزل عليه الوحى وهو فى بيتى.

(4)          نزلت براءتى من السمآء.

(5)          كنت أحب الناس إليه.

(6)          كان يصلى وأنا معترضة بين يديه ولم يكن يفعل ذلك بأحد من نسائه.

(7)          لم ينكح امرأة أبواها مهاجران غيرى (أبى بكر وأم رومان).

(8)          كنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد ولم يكن يصنع ذلك بأحد من نسائه غيرى.

(9)          قبض الله نفسه وهو بين نحرى وسحرى.

(10)   مات فى الليلة التى كان يدور على فيها ودفن فى بيتى.

مكانة عائشة العلمية:

(1)          فقهت عائشة أمور دينها وتعلمت مبادئ الإسلام فى مدرسة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وتخلقت بأخلاقه الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه مصداقاً لقوله تعالى فى سورة القلم الآية (4): (وإنك لعلى خلق عظيم)

(2)          وقد روت عن النبى – صلى الله عليه وسلم – الكثير والكثير من أحاديث.

وكانت عائشة – رضى الله عنها – ذكية لبقة فصيحة اللسان بليغة المقال ، إذا حدثت ملكت أسماع االناس وأخذت بمجامع قلوبهم.

كانت بليغة وحكيمة أخذت حكمتها من كتاب الله عز وجل وبلاغتها من أدب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كذلك فصيحة أخذت فصاحتها من نشأتها العربية بمكة.

لقد ملأت السيدة عائشة – رضى الله عنها – أرجاء الأرض علماً وهى لم تخُط بعد إلى االتاسعة عشرة من عمرها.

تفسير رؤياها:  قالت عائشة – رضى الله عنها – لأبيها أبى بكر الصديق – رضى الله عنه – لقد رأيت كأن ثلاثة أقمار سقطن فى حجرى.  فقال لها: (إن صدقت رؤياك دُفن فى بيتك ثلاثة من خير أهل الأرض)

      فلما دفن النبى – صلى الله عليه وسلم – قال لها أبوبكر: هذا أحد أقمارك وهو خيرها (بهجة المجالس للقرطبى) ج2 صـ 249 ، ثم دفن القمر الثانى فكان أبوبكر نفسه ثم القمر الثالث وكان سيدنا عمر – رضى الله عنه ، وكان هذا من أعظم المكرمات التى حظيت بها عائشة – رضى الله عنها.

دورها فى غزوات رسول الله – صلى الله عليه وسلم:

غزوة أحد:  كانت عائشة – رضى الله عنها – تشارك فى حمل المآء على عاتقها لسقاية المجاهدين – وكانت هذه هى المشاركة الأولى.

غزوة الخندق: كان لها شجاعة نادرة وجرأة شديدة حتى إن سيدنا عمر بن الخطاب أنكر جرأتها لما رآها تقترب من صفوف المجاهدين.

حديث الإفـك

لقد تعرضت السيدة عائشة – رضى الله عنها – لابتلاء قاسى وشديد ومؤلم حيث أُتهمت فى أعز ما تملك المرأة ، فهى االصديقة بنت االصديق تربت فى أطهر بيت.

كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فى خروجه لغزو بنى المصطلق، أقرع بين نسائه على عادته كلما خرج فى سفر أو غزوة فخرج سهم (عائشة). وانطلقت فى صحبته سعيدة.

وكانت فألاً حسناً على القائد المصطفى ، فعاد من غزوته منتصراً ، وفى الطريق ، أناخ االعسكر فباتوا بعض الليل ، ثم أذن فيهم بالرحيل ، فارتحلوا ، وبلغ الركب المدينة فى مطلع االصبح فإذا أم المؤمنين عائشة ليست فى هودجها.

وكان الرسول وصحبه (أبو بكر) ساعة من نهار حائرين قلقين.  حتى ظهرت من بعيد تركب بعيراً يقوده (صفوان بن المعطل السلمى) واطمأن النبى أن وجدها بخير ، وسمع حديثها عن سبب تخلفها قالت: (خرجت لبعض حاجتى ، قبل أن يؤذن فى الناس بالرحيل ، وفى عنقى عقد لى فلما فرغت أنسل من عنقى ولا أدرى – فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه فى عنقى فلم أجده ، فرجعت إلى مكانى الذى ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته ، وجآء القوم وأنا بعيدة ، فاحتملوا الهودج فشدوه على البعير ولم يشكوا أنى فيه ، فرجعت إلى المعسكر وقد انطلق الناس.  فتلففت بجلبابى ، ثم اضطجعت فى مكانى ، إذ مر بى صفوان بن المعطل، فرأى سوادى فأقبل حتى وقف عليه فعرفنى ، فلما رآنى قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون ، ظعينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم ! ما خلفك يرحمك الله ؟)

فما كلمته ..  ثم قرب البعير فقال: اركبى.  واستأخر عنى ، فركبت عندما وصلت المدينة أوت إلى فراشها فنامت هادئة ، والمدينة يقظى  لا تنام لماذا  ؟ إن المنافقين فى المدينة رأوا انتصارات الإسلام تتزايد فى كل يوم وبدأت عروشهم تتهاوى وتنحسر ، فأرادوا أن يوجهوا ضربة قوية قاصمة للنبى – صلى الله عليه وسلم – فرموا أمنا الطاهرة ببهتان عظيم وعلى رأسهم (عبدالله بن أُبى بن سلول) الذى ما برئ من حقده على النبى – صلى الله عليه وسلم ، وانتقل حديث الإفك من دار (ابن سلول) إلى أحياء المدينة وردده ناس من المسلمين (حسان بن ثابت) شاعر االنبى – صلى الله عليه وسلم.

(2)(مسطح بن أثاثة بن عباد) قريب أبى بكر وموضع بره.

(3)(حمنة بنت جحش) ابنة عمة النبى – صلى الله عليه وسلم – وأخت زوجته زينب.

      بلغ الحديث محمد – صلى الله عليه وسلم – كما بلغ مسامع أبى بكر وأم رومان فصكها صكاً – ولكن أحداً منهم لم يستطع أن يواجه عائشة بالشائعات الرهيبة لماذا ؟ لأنها منذ أن عادت من غزة بنى المصطلق مريضة تشتكى شكوى شديدة.  ولكنها أنكرت من رسول الله جفوة ظاهرة وقد عودها إذا اشتكت من قبل (الحادثة) أن يلطف بها ويغمرها بحنانه – فقالت عائشة حين رأت من جفائه لو أذنت لى فانتقلت إلى بيت أمى فمرضتنى ؟ قال: (لا عليك).

      فانتقلت إلى أمى ، حتى نقهت من وجعى بعد بضع وعشرين ليلة.  فخرجت ليلة لبعض حاجتى ومعى (أم مسطح) خالة أبى بكر.  إذ عثرت فى مرطها فقالت: تعس مسطح.  قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدراً.

      قالت: أو ما بلغك االخبر يا بنت أبى بكر ؟ قلت: وما الخبر فأخبرتنى بالذى كان من أهل الإفك ، قلت: أو كان هذا ؟ فوالله ما قدرت على أن أقضى حاجتى ، ورجعت فمازلت ابكى حتى ظننت أن االبكاء سيصدع كبدى وقلت لأمى !  يغفر الله لك ، تحدث الناس ولا تذكرين لى من ذلك شيئاً ؟  قالت أم رومان: أى بنية! خفضى عليك الشأن ، فوالله ، لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها ، لها ضرائر ، إلا كثرن وكثر الناس عليها ! لكن عائشة باتت مسهدة لا يرفأ لها دمع ولا تكتحل عيناها بنوم.

خُطبة النبى – صلى الله عليه وسلم:

      وقد قام فى الناس يخطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (يا أيها الناس، ما بال رجال يؤذوننى فى أهلى ويقولون عليهم غير الحق ؟  والله ما علمت منهم إلا خيراً ، ويقولون ذلك لرجل ، والله ما علمت منه إلا خيراً ، وما يدخل بيتاً من بيوتى إلا وهو معى).

ما حال المسلمين تجاه نبيهم ؟تكاد أفئدة المسلمين تنخلع تأثراً لنبيهم فى هذا البلاء ، ويثورون غضباً لشرف زوجة كريمة – فتختلط أصواتهم فى طلب الإنتقام والتأديب متطالبين بأعناق أصحاب الإفك

      وتمضى عائشة فى وصف محنتها فتقول: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم- على بن أبى طالب وأسامه بن زيد فأستشارهما ، فأما أسامة فأثنى على خيراً وقال: يارسول الله أهلك ، ولا نعلم منها إلا خيراً ، وهذا الكذب والباطل ، وأما (على) فإنه قال: يارسول الله ، إن االنسآء لكثير ، وإنك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية فإنها ستصدقك (شرح مسلم الإمام النووي) ، (فدعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جاريتى (بريرة) ليسألها فتقول: (بريرة) والله ما أعلم إلا خيراً ، وما كنت أعيب على عائشة شيئاً إلا أنى كنت أعجن عجينى فآمرها أن تحفظه ، فتنام عنه ، فتأتى االشاة فتأكله).

      ثم يعود بعد حين إلى بيت أبى بكر فإذا عائشة تبكى ، فتبكى لها زائرة عندها من الأنصار ، وأبواها ينظران إليها فى صمت وأسى.

      ولأول مرة منذ شاع حديث الإفك ، جلس النبى – يحدث عائشة قال: (ياعائشة ، إنه كان ما قد بلغك من قول الناس ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت قد فارقت سوءا مما يقول االناس فتوبى إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة من عباده).  صاحت عائشة فى أبويها بملء عذابها:  ألا تجيبان ؟  ثم أتجهت إلى زوجها تقول فى إصرار: (والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً ، والله يعلم أنى بريئة ، لأقولن ما لم يكن ، ولئن أنا أنكرت ما يقولون ، لا تصدقوننى).

ولكن سأقول كما قال أبو يوسف:(ونسيت اسم سيدنا يعقوب) (فصبرُ جميلُ والله المستعانُ على ما تصفون) سورة يوسف (18) ثم تحولت ، واضطجعت على فراشها.

وفى نفس اللحظة تغشى النبى – صلى الله عليه وسلم – ما كان يتغشاه من نزول الوحى فسجى بثوبه ، ووضعت له وسادة تحت رأسه.  ثم سر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم ، فجلس يمسح العرق عن جبينه ، ويقول: (أبشرى يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك) فقامت أم رومان من مكانها وقد استخفها الفرح ، فأشارت إلى عائشة أن تقوم إلى زوجها فقالت عائشة: (والله لا أقوم إليه ، فإنى أحمد الله عز وجل ، وهو الذى أنزل براءتى).

وأما النبى – صلى الله عليه وسلم – خرج إلى المسجد وتلا على الناس آيات سورة النور من الآية 11 : 19:

(إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ …..) 

      ويأمر الله تعالى بجلد الذين تقولوا بالفاحشة: الآية رقم (4) سورة النور:

َالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أبداً وأُلئك هُمُ الفاسقون)

وأقيم الحد على من ثبت عليهم تهمة القذف (حسان بن ثابت ، مسطح وحمنة أما عبدالله بن اُبى بن سلول مدبر الإفك فإنه كان أحذر من أن يقع تحت طائلة العقاب فلقد أوقع غيره وفلت هو (فقه االسيرة للشيخ محمد الغزالى).

وعادت السيدة عائشة – رضى الله عنها – إلى مكانها فى االبيت المحمدى، تحف بها هالة من آيات االنور ، نصراً إلهياً جعل من براءتها من الإفك قرآناً يتعبد به المسلمون.

وكانت دائماً تردد على مسامعهن (ضرائرها) قوله – صلى الله عليه وسلم (حبك يا عائشة فى قلبى كالعروة الوثقى).

(الوداع) وفاة الرسول

      لقد آن للقائد أن يستريح بعد حياة مناضلة مجاهدة وآن للرسول االبشر ، أن يرجع إلى ربه ، بعد أن بلغ رسالته.

عاد من حجة الوداع إلى المدينة ، وذات ليلة خرج إلى البقيع يحيى االراقدين هناك ويستغفر لهم.  رجع رسول الله من البقيع فوجدنى أجد صداعاً فى رأسى وأقول:  (وارأساه) فقال: (بل أنا والله يا عائشة وارأساه).

لقد دعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نساءه فاستأذنهن فى أن يمرض فى بيت عائشة فأذن له ، وانتقل إلى بيت االحبيبة تمرضه ، قالت عائشة: (وقبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين سحرى ونحرى … فمن سفهى وحداثة سنى أنه قبض وهو فى حجرى ، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت أضرب وجهى )، سيرة ابن إسحاق.

أم المؤمنين وموقعة الجمل: بعد قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان – رضى الله عنه حدثت فتنة بين على ومعاوية – رضى الله عنهما فخرجت عائشة تريد الإصلاح بين الناس ، والمطالبة بالقصاص من قتلة عثمان – رضى الله عنه ، فلما بلغت مياه بن عامر ليلاً نبحت الكلاب فقالت: أى مآء هذا ؟ قالوا: مآء الحوأب قالت: ما أظننى إلا أننى راجعة ، إن رسول الله قال ذات يوم كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب االحوأب ؟ (رواه أحمد).

قال الإمام الذهبى: ولا ريب أن عائشة ندمت على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم االجمل وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ) (سير أعلام االنبلاء 2 صــ 177 ).

وفاة عائشة رضى الله عنها:

      وفى ليلة الثلاثاء 17 رمضان سنة سبع وخمسين ، وصلى عليها (أبوهريرة) ثم شيعت جنازتها فى غسق الليل إلى البقيع ، كما أوصت على أضواء مشاعل من جريد مغموس فى الزيت ، وسارت الجموع من ورائها باكية معولة ، فلم تر ليلة أكثر ناساً منها.

      ونزل جثمانها مع أمهات المؤمنين.

      ونزل معها إلى القبر ولدا أختها أسماء:  عبدالله وعروة ابنا الزبير ، والقاسم وعبدالله ابنا أخيها محمد ، وعبدالله ابن أخيها عبدالرحمن.

      رحمها الله رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته مع االنبيين واالصديقين وحسن أولئك رفيقاً:

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54)فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ(55) سورة القمر.

 

( والحمدلله رب العالمين )

 

 

اترك تعليقاً