سورة الكهف (4) (ذى القرنين)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

        الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام والبركات على إمام أنبيائك ، سيد رسلك سيدنا محمد وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وجميع عبادك الصالحين من أهل السموات والأرض ، وعلى معهم يا أرحم الراحمين يا الله ياذا الجلال والإكرام.

أما بعد:

          فهذا الدرس الأخير فى سورة الكهف قوامه قصة ذى القرنين ، وهو (أبوبكر بن افريقش) ، ورحلاته الثلاث إلى الشرق وإلى الغرب ، وبناؤه للسد فى وجه يأجوج ومأجوج.  وهى القصة الرابعة من القصص المذكورة فى  هذه السورة ، وجميعها ترتبط بالعقيدة والإيمان ، وهو الهدف الأصيل للسورة الكريمة.

من هو ذى القرنين؟  كان من ملوك اليمن من حمير مستدلا باسمه فملوك حمير كان يلقبون بذى ، كذى نواس ، ذى  يزن ، وكان ذى القرنين اسمه أبوبكر بن افريقش.  وأنه رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط ، فمر بتونس ومراكش وغيرهما، وبنى مدينة أفريقية فسميت القارة كلها باسمه ، وسمى ذا القرنين لأنه بلغ قرنى الشمس.

          وكان ذو القرنين ملكاً مؤمناً مكن الله له فى الأرض فعدل فى حكمه واصبح ، وكان الله قد من عليه بالدنيا فستغلها خادمة لدينه ولعباد الله ، وكان فى الفترة بين عيسى ومحمد – صلوات الله عليهما.

          وروى أن الذين ملكوا الأرض أربعة:  مؤمنان وكافران ، أما المؤمنان فسليمان عليه السلام وذو القرنين ، وأما الكافران فهم النمرود وبختنصر كما قرر العلماء.  النمرود:  هو الملك الذى كان على عهد سيدنا إبراهيم ، أما بختنصر:  هو الذى سلطه الله على خراب بنى إسرائيل وشردهم فى كل مكان.

          ذو القرنين المؤمن الذى بنى السد غير ذو القرنين الاسكندر المقدونى اليونانى الإغريقى ، هذا رجل كافر وثنى.

          وقد أعطاه الله عز وجل كل شئ يحتاج له الملوك العظام (علماً وعملاً وإدراكاً وإحاطة بالدنيا كلها ، يعرف من المظلوم ومن الظالم ومن الجائع ومن العريان ومن المضطهد).

لماذا سمى بذى القرنين ؟  قال العلماء:  إنه عاش قرنين من الزمن.  القرن = 100 سنة.  (والله أعلم).

          ولنبدأ القصة من أولها عندما سأل اليهود النبى – صلى الله عليه وسلم – عن ذى القرنين – الله عز وجل يقول:  قل لهم سأقص عليكم من نبأه وخبره قرآناً ووحياً ، لقد يسر الله عز وجل له أسباب الملك والسلطان والفتح والعمران ، وأعطيناه كل ما يحتاج إليه للوصول إلى غرضه من أسباب العلم والقدرة والتصرف.

أولاً:رحلته إلى الغرب (المغرب):سلك ذو القرنين طريقه الذى يسره الله له وسار بشاطئ البحر المتوسط حتى وصل إلى المحيط الأطلسى غرب المغرب ، وجد الشمس تغرب فى ماء وطين (فى عين حمئه) ووجد عند تلك العين الحارة ذات الطين قوماً من الأقوام ، فقال الله له وهذا بطريق الإلهام:  إما أن تقتلهم أو تدعوهم بالحسنى إلى الهداية والإيمان ، وكما قال المفسرون:  أنهم كانوا كفاراً فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل أو يدعوهم إلى الإسلام فيحُسن إليهم.

قول:  ذو القرنين: (أما من ظلم) يجب أن يكون مادة دستورية يحكم بها الأفراد والجماعات لصدقها وموافقتها لحكم الله تعالى ورضاه ، ومن الأسف أن يعكس هذا القول السديد فيصبح أهل الظلم المكرمين لدى الحكومات ، وأهل الإيمان والإستقامة مهانين.

قال ذو القرنين:  ومن أصر على الكفر فلسوف نقتله ثم يرجع إلى ربه فيعذبه عذاباً منكراً فى نار جهنم ، وأما من آمن بالله وأحسن العمل فى الدنيا وقدم الصالحات فجزاؤه الجنة يتنعم فيها.

بمعـنى:  يرفع المواهب المؤمنة العليا ويخفض ويدق رءوس الفجرة.

          مصداقاً لقوله تعالى فى الآية (83 – 88):

(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا(83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا(86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا(87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)(88).

ثانياًرحلته نحو الشرق:  وصل أقصى المعمورة من جهة الشرق حيث مطللع الشمس ، وجد الشمس تشرق على أقوام ليس لهم من اللباس والبناء ما يسترهم من حر الشمس ، فإذا طلعت الشمس دخلوا فى أسراب تحت الأرض ، وإذا غربت خرجوا لمكاسبهم.  وجدهم كما قال قتادة:  عراة أمم بدائية إلى عهد ما بعد ذى القرنين لا يلبسون ثياباً ولا يسكنون سوى الكهوف والمغارات ، ويوجد فى البلاد الكينية إلى الآن قبائل لا يرتدون الثياب ، وإنما يضعون على فروجهم خيوط وسيور لا غير ، ليس لهم طعام ، حتى يرفع من إنسانية هؤلاء الناس أنشأ المصانع الغزل (1) وصنع لهم ملابس، (2) وأسكنهم فى بيوت ، (3) وأستطاع أن يداوى عللهم ، (4) ويعلمهم بمحو أميتهم ، كذلك فعل بأهل المشرق من آمن تركه ومن كفر قتله ، كما فعل بأهل المغرب وقد أحطنا علماً بأحواله وأخباره ، وعتاده وجنوده ، فأمرهُ من العظمة وكثرة الرجال بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير.

مصداقاً لقوله تعالى الآية (89 – 91):

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا(89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا(90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا)(91).

ثالثاً:  رحلته إلى مكان بين السدين:  سلك ذو القرنين طريقاً ثالثاً بين المشرق والمغرب يوصله جهة الشمال حيث الجبال الشاهقة.

أين موقع هذا السد؟ فريق من المفسرين:  بين سمرقند والهند يوجد بلد ترمذ وهى التى تخرج منها الإمام الترمذى وتسمى الآن باب الحديد أو بين أرمينية وأذربيجان. وجد من وراء السد قوماً متخلفين لا يكادون يعرفون لساناً غير لسانهم إلا بمشقة وعُسر ، وما فهم كلامهم إلا بواسطة ترجمان. 

قال القوم لذى القرنين:  إن يأجوج ومأجوج – قبيلتان من بنى آدم فى خلقهم تشويه ، منهم مفرط فى الطول ، ومنهم مفرط فى القصر (عن ابن عباس) قوم مفسدون بالقتل والسلب والنهب وسائر وجوه البشر ، قال المفسرون:  كانوا من أكلة لحوم البشر ، يخرجون فى الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ، ولا يابساً إلا حملوه.

          هل نفرض لك جزءاً من أموالنا كضريبة وخراج ، لتجعل سداً يحمينا من شر يأجوج ومأجوج؟ قال ذو القرنين:  ما بسطه الله على من القدرة والملك خير مما تبذلونه لى من المال – أى لا حاجة لى إلى المال ساعدونى بالأيدى والرجال والخامات، أجعل بينكم وبينهم سداً منيعاً ، وحاجزاً حصيناً

قال لهم:  أعطونى قطع الحديد وأجعلوها لى فى ذلك المكان (بين الصدفين) بين الجبلين ثم قال انفخوا بالمنافيخ عليه ، ثم صار الحديد كالنار صب النحاس المذاب عليه فألتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً (كما قال الفخر الرازى فى كتابه التفسير الكبير).

          (وقد استخدمت هذه الطريقة حديثاً فى تقوية الحديد ، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إلى الحديد تضاعف مقاومته وصلابته).

          فما أستطاع المفسدون أن يعلوه ويتسوروه لعلوه وملامسته ، وما أستطاعوا نقبه من أسفل لصلابته.

          ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذى قام به ، فلم يأخذه البطر والغرور ، ولكنه ذكر الله فشكره ، ورد إليه العمل الصالح الذى وفقه إليه ، وتبرأ من قوته إلى قوة الله ، وأعلن أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة ، فتعود الأرض مسطحاً مستوياً ، كأن لم يكن بالأمس.

          وهنا تنتهى قصة ذى القرنين.

من هم يأجوج ومأجوج:  وعد الله بدك السد – ربما يكون قد جآء منذ أن هجم التتار، وأنساحوا فى الأرض ، ودمروا الممالك تدميراً.  وهناك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثورى عن عروة عن زينب بنت جحش (زوج النبى – صلى الله عليه وسلم) قالت:  استيقظ الرسول – صلى الله عليه وسلم – من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول:  (ويل للعرب من شر قد اقترب ، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا) (وحلق بإصبعيه السبابة والإبهام).  قلت:  يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:  (نعم إذا كثر الخبث).

          وقد كانت هذه الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن.  وقد وقعت غارات التتار بعدها ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد المجرم هولاكو فى خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين ، وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعلم ذلك عند الله.  وكل ما نقوله ترجيح لا يقين.

          وههنا تنتهى قصة ذى القرنين ….

( والحمدلله رب العالمين )

اترك تعليقاً