لا تدعوا على أنفسكم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.

أما بعد ..

ففى صحيح مسلم عن جابر – رضى الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال:  (لا تدعُوا على أنُفسكم ، ولا تدعُوا على أولادكم ولا تدعُوا على أموالكم ، لا تُوافقُوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاءً ، فيستجيب لكم).

الشـرح:  الإنسان عجول بطبعه ، كثير الجدل حتى مع نفسه ، يغضب أحياناً لأتفه الأسباب ، ويثور على من يغضبه حتى ينسى ما قد فعله به من صنائع المعروف – ومايُكنه له من الإحترام والحب ، فيسبه ويدعو عليه بالويل والثبور وعظائم الأمور.

(2)  وأحياناً يملكه الغضب فيدعو على نفسه دعاءً لو أفاق من غضبه لاستنكره، وندم على قوله.

وكما تعلمون أن الغضب يسلب الإنسان عقله – ويفقده إرادته ويسيطرعلى كيانه كله.

فالرسول الرءوف الرحيم بالمؤمنين يوصيهم بهذه الوصية التى يتلقاها المؤمن بصدر رحب وقلب مطمئن.

إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم:  يقول لنا بدافع من الود والرفق: (لاتدعوا على أنفسكم) بالشر فى وقت الغضب أو وقت الشعور بالنكد واليأس والجزع (الحزن) ، ولكن يدعو لها (لنفسه) بالعفو والعافية والمغفرة وصلاح الحال، ثم قال: (ولا تدعوا على أولادكم) أى ذكورهم وإناثهم ، فإن الولد يطلق على كل مولود ، ويشمل أولاد الأولاد مهما نزلوا.

بمعـنى:لا تدعوا عليهم (1) إن أساءوا إليكم.  (2) أو قصُروا فى واجب من واجباتكم ، أو رأيتم منهم ما لا يسركم.

فإن ذلك ليس من الحكمة فى شئ (لأنه لو قدر الله حصل له شئ أنت تحزن فكل سيد ، عاقل يعرف عواقب الأمور – لا يدع على نفسه أبداً ولا على أولاده مهما كانت الظروف صعبة.

وسائل دفع الغضب أو دواء الغضب:

1.  الإكثار من ذكر الله تعالى بالقلب واللسان – وخير الذكر: (لا إله إلا الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله).

2.  إشعار النفس بأنها أمارة بالسوء وتتواضع لعظمة الله وتتواضع أيضاً للناس فى غير منقصة.

فإن الدافع للغضب هو الكبر والتعالى على الناس ، والغرور بالمنصب والجاه والمال والإعجاب بالنفس ، وما إلى ذلك من الأوصاف.

3.  وهناك وصية من رسول الله – صلى الله عليه وسلم:  ثلاثة أنواع من العلاج:  أ. الجلوس.    ب. الاضطجاع.     ج. الوضوء.

أ‌.      الجلوس: (فمن أحس بشى من ذلك فليلصق بالأرض).

فإذا غضب أحدنا وهو قائم جلس لماذا ؟

لأن الجلوس يكسر من حدة الإندفاع إلى الشر.  فإن القائم هو غضبان قد تصدر عنه أقوال تدفع من أغضبه إلى الهيجان عليه.

والشيطان يغتنم هذه الفرصة فيفجر براكين الغضب بين المتخاصمين ، ويسول لكل منهما أن يزيد عليه سباً وشتماً أن يطوع لكل منهما قتل صاحبه كما طوع لقابيل قتل أخيه هابيل.

ب‌.            الاضطجاع:  إذا لم يجد الجلوس شيئاً حتى تتراخى الأعصاب وتنكسر حدة الغضب تماماً – إن شاء الله.

ج.   الوضوء:  فإن الوضوء طهارة روحية أكثر منها بدنية والوضوء يذهب: (1) وساوس الشيطان ، (2) هواجس النفس ، (3) وينسى الإنسان مآسيه ومآسى من أغضبه.

4.   وليس الجلوس والإضطجاع والوضوء هى كل الأدوية التى تقطع دابر الغضب ، ولكن هناك أدوية أخرى ذكرها النبى – صلى الله عليه وسلم.

(4) السكوت عند الغضب:  حتى لا يتفوه بكلمة نابية فيندم عليها حيث لا ينفعه الندم فالكلمة إذا خرجت من الفم لا تعود إليه ابداً. 

(5)  من الأدوية التى يُعالج بها الغضب الإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فمن استعاذ بالله أعاذه وعصمه ممن استعاذ به منه.

الدليــل: الحديث الصحيح فى البخاري ومسلم عن صرد – رضى الله عنه قال: (استب رجلان عند النبى – صلى الله عليه وسلم –ونحن عنده جلوس وأحدُهما يسب صاحبه مغضباً قد أحمر وجهه ، فقال النبى – صلى الله عليه وسلم: (إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فقالوا للرجل ألا تسمع ما يقوله النبى – صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إنى لست بمجنون).  وهذه كلمة فيها غلظة وسوء أدب دفعه لقولها الغضب تعوذ بالله من شره.

      وعلى المسلم إذا اشتد غضبه أن يُذكر قول الله تعالى فى أوصاف المؤمنين:

(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)الشورى الآية (37).

وليذكر أيضاً قوله تعالى فى أوصاف المتقين:

(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران الآية (134).

وليذكر ما كان عليه النبى – صلى الله عليه وسلم – من الحلم والعفو والصفح الجميل. وما كان عليه أصحابه الكرام البررة.

شرح الآية الكريمة (37) الشورى:  إذا غضبوا على أحد ممن اعتدى عليهم عفوا وصفحوا.

وقال العلماء:  من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب ولكن بشرط أن يكون الحلم غير مخل بالمروءة ، ولا واجباً كما إذا انتهكت حرمات الله، فالواجب حينئذ الغضب لا الحلم – وعليه قول الشافعى:  (من استُغضب ولم يغضب فهو حمار) كمن دخل على زوجته ووجد معها رجل غريب…

      وقال الشاعر:  (وحلمُ الفتى فى غير موضعه جهل).

نرجع إلى الحديث الشريف:  (لاتدعوا على أنفُسكم ، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم).  فالمالُ عصب الحياة – وشريانها الحيوى – وعمودها الفقرى (مثل السيارة – البغل) وطاقتها الفعالة وأساسها المتين.  وقد ذكر المال فى القرآن الكريم قبل الأبناء فى سورة الكهف الآية (46):

      (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)

لأن فى المال جمالاً ونفعاً.

وقد وصانا الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا ندعو بالشر لماذا ؟

(لا توافقوا من الله ساعةً يُسالُ فيها عطاءً فيستجيب لكم)  لئلا توافقوا بدعائكم ساعة منحة من الله – تبارك وتعالى – تكون فيها أبواب القبول مفتوحة ، فيستجيب لكم فيما سألتموه فتندمون على ذلك حيث لا ينفعكم الندم).

وكان بدلُ من هذا الدعاء المذموم لو تسلحتم (1) بالحلم ، (2) والعفو ،  (3) والصبر الجميل ، (4) وتأنيتم فى رفع الأكف بالدعاء اليائس البائس الخائب المخيب للآمال.

سلوا الله – عز وجل – (1) أن يرحمكم ، (2) وأن يعفو عنكم ، (3) وأن يغفر لكم ذنوبكم ، (4) وأن يطهر قلوبكم من الآفات والعلل ، (5) وأن يشفى صدوركم من كل ما يسبب لها الضيق والحرج.

ويستفاد من هذا الحديث:

1.  أن يكون العبد مؤدباً مع ربه – عز وجل – فلا يسأل عن شئ هو لا يرجوه منه فى قرارة نفسه ، ولا يتمناه لنفسه ولا لأولاده ولا لماله – فإذا دعا بالشر على نفسه وولده وماله فقد أساء الأدب مع الله – عز وجل – وفى ذلك إثم.

فليس هناك ذنب أعظم من سوء الأدب مع الكبير المتعال.

      عن أنس – رضى الله عنه قال:  قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدُكم الموت من ضُر أصابه ، فإن كان لابد فاعلاً ، فليقل: اللهم أحينى ما كانت الحياة خيراً لى ، وتوفنى إذا كانت الوفاةُ خيراً لى).    رواه البخارى – ومسلم – الترمذى وأبو داود وغيرهم.

الشـرح:  والإنسان بطبعه يكره الموت ويحب الحياة – ولكن قد يعرض له ما يدُخل على نفسه اليأس منها – ويتمنى انقطاع عمره لكى يستريح مما يعانيه من مرض شديد – أو فقر مدقع ، أو دين موجع وما إلى ذلك من أنواع البلاء – وهو لا يدرى أن كان سيجد الراحة بعد الموت أم لا يجدها – فقد يموت مثقلاً بالذنوب فيصلى بنارها فى قبره ويوم تقوم الساعة.  ولو عاش ربما يرزقه الله بتوبة نصوح ، ويوفقه للعمل الصالح.

لهذا حذر النبى – صلى الله عليه وسلم – من تمنى الموت فهو يعلم أن هذا التحذير قد لا يلاقى آذاناً صاغية ممن اشتد بهم الكرب – وأحاط بهم البلاء من كل جانب ، لهذا جآءهم من طريق آخر على النحو الذى يحبه ربنا ويرضاه ولا يخرج عن حد الأدب معه – جل فى علاه – فقال: (فإن كان لابد فاعلاً ، فليقل اللهم أحينى ما كانت الحياة خيراً لى ، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى).

وهذا دعاء يدل على منتهى (1) التفويض ، (2) التسليم ، (3) الرضا ،  (4) والإعتراف لله بالعلم والحكمة وسعة بالفضل والرحمة.

ومن هنا كان تمنى الموت من الجهل بقواعد الدين وقيمة ما فيه من مخالفة الطبع البشرى.

لماذا  يتمنى العبد الموت ؟  وعمره هو رأس ماله فى كل يوم يمكن أن تزداد فيه عملاً صالحاً يقربه إلى الله تبارك وتعالى.

هذا وقد اختلف الفقهاء فى حكم تمنى الموت.

يٌحرم  –  يُكره  –  يجوز …..

فمن قال بالحرمه حمل النهى فى الحديث على التحريم ، بشرط أن يكون التمنى بسبب ضرُ أصابه.

ومن قال بالكراهة حمل النهى فى الحديث على الكراهة بدليل قوله فيه: (فإن كان لابد فاعلاً فليقل:  (اللهم أحينى ما كانت الحياة خيراً له ، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى).

الرأي الثالث:

ومن قال بالجواز شرط لذلك أن يكون الضُر الذى لحق فى صميم دينه فأصبح يخشى على نفسه من الفتنة فيه (يخرج من الدين الإسلامى إلى أى ملة أخرى).

ولكن الأصح عندى – والله أعلم – أن النهى فى الحديث للتحريم إذا كان المتمنى بسبب ضرر دنيوى.

والمنهى عنه فى الحديث دعاء الإنسان على نفسه بالموت يأساً من الحياة وقنوطاً من رحمة الله.

أما يتمنى الموت حباً فى لقاء الله تعالى فلا أراه معقولاً لماذا ؟  لأن الدنيا مزرعة للآخرة ، والعارف بالله (1) يرجو التزود منها ، (2) ويتمنى أن تطول حياته ليُكثر أجره وهو مستمتع بذكر الله تعالى متعلق القلب به ، فهو فى لقاء دائم معه.

وإذا وقع فى بليه فليتسلح فى مواجهتها بالصبر ، فإن النصر مع الصبر ، وإن الفرج مع الكرب ، وإن مع العسر يسراً كما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولا يسارع إلى الدعاء على نفسه بالموت – فإن ذلك برهان على ضعف إيمانه.  من رضى فله الرضا – ومن سخط فله السخط ، ولا يقع فى ملك الله إلا ما يريد الله.

وقد جآء فى الحديث القدسي:

(من رضى فله الرضا منى حتى يلقانى.  ومن سخط فله السخط منى حتى يلقانى).

ونذكر بأول الحديث:وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى عباد الله المؤمنين: (لا تدعوا على أنفسكم ، ولا تدعوا على أولادكم ، ولا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة تُسأل فيها عطاءً ، فيستجيب لكم).

إذاً على المسلم أن يجعل أما عينيه ما كان عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مكارم الأخلاق فيتخذه أسوة له فى أقواله وأفعاله كلها ما أستطاع إلى ذلك سبيلاً.

فمن جعله أُسوة له نجى ونال ما يتمنى من خيرى الدنيا والآخرة مصداقاً لقوله تعالى فى سورة الأحزاب الآية (21):

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)

 

(والحمد لله رب العالمين)

 

 

 

 

اترك تعليقاً