حيلة يوسف لإبقاء أخيه معه

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

     الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.

أما بعــد ..

فلقد أخبر يوسف عليه السلام أخوه بنيامين أنه سيحتال على بقائه معه فلا يخبر إخوته بشئ من هذا.  وقد أخبرنا الله تعالى فى سورة يوسف (70) عن خطة يوسف لأخذ أخيه حيث رب العزة:

فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ”.

نرى أن يوسف عليه السلام لما كال لهم الطعام وزودهم بما يحتاجون إليه بعد إكرامه لهم جعل سقاية الملك (إناء من ذهب كان يشرب فيه ثم جُعل للكيل) وجعله فى رحل أخيه بنيامين.

ثم تحركت القافلة وسارت خطوات نادى مناد قائلاً:  (أيتها العير “يا أهل القافلة” إنكم لسارقون).

وأُوقفت القافلة للتفتيش وأعلن عن الجائزة لمن يأتى بالصواع ومن جآء به منكم فله حمل بعير زيادة وأنا ضامن لكم بهذا الشرط ، كفيل بهذا الحمل.

قالوا إخوة يوسف:  وما كنا سارقين فى يوم من الأيام.

قالوا إخوة يوسف:إن لنا شرعاً وديناً وذمة وعهداً فمن وجدتموه فى رحله فخذوه أسيراً عندكم عبداً لكم ونحن على يقين من براءة ذمتنا وطهارة أعراقنا.

وطابت نفس يوسف لهذا العهد.   إذ ما كان شرع الملك فى مصر يجيز له أن يحجز السارق أو يتحكم فيه ، ولكن الله مكن له فيما أراد عن طواعية من إخوته.

فبدأ بتفتيش أوعيتهم وعاءً وعاءً حتى انتهى إلى وعاء بنيامين فوجد الإناء فاستخرجها منه وأشهر فى وجوههم ، فوجموا وذهلوا وأطرقوا حياءً وخجلاً ودهشوا.

قال لهم يوسف:  عليكم بالشرط ، والشرط مستحق أن ينفذ فدعوا هذا الذى وجدناه عنده نتحكم فيه ونأخذ حقنا منه.

ولما سمعوا قول يوسف وكان فيه نوع من الصرامة والشدة ، قالوا:  ياأيها العزيز إنا له أباً شيخاً كبيراً وقد أخذ علينا عهداً أن نحافظ عليه ونرده إليه وها نحن أولاء عشرة بين يديك.

قال يوسف:  نعوذ بالله من أن نأخذ من لم نجد متاعنا عنده.

ولما استحكم فيهم اليأس من قبول العزيز لشفاعتهم ، خلصوا إلى أنفسهم يتناجون ويتشاورون.

قال يهوذا (أخاهم الأكبر الذى أشار عليهم أن لا يقتلوا يوسف ويلقيه فى الجب):  ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم عهداً واستحلفكم إيماناً أن تأتوه بأخيكم فما نقول له اليوم ؟

إن جُرح يوسف فى كبد أبيكم لم يندمل وإن دموعه من عينيه لم تنقطع ونحن قد جنينا فى الأولى ، وها نحن أولاء نجنى فى الثانية.

وذهب التسعةُ وخلفوا كبيرهم يهوذا.  وتفقد يعقوب بنيامين فلم يجده فيهم ثم قال بصوت حزين:  ما صنعتم بأخيكم ؟  وما فعلتم بأيمانكم ؟  فقصوا عليه قصصهم وحدثوه بدخيله أمرهم.

فتول عنهم وقال:  زينت لكم أنفسكم أمراً ففعلتموه ، فصبرى على ما أصابنى (صبر جميل لا عجز فيه ولا شكاية لأحد غير الله).

وهنا قد أبيضت عيناه (فقد الإبصار) وهو ممتلئ من الهم والكرب والحزن مكظوم لا يبثه لأحد ولا يشكوه لغير ربه تعالى …

ولم يعد يجد متنفساً لهمه إلا ساعتين:

(1)                                ساعة يفزع فيها إلى ربه يصلى ويسجد ويتعبد ويتهجد مستلهماً منه الصبر.

(2)                                وساعة يخلص فيها إلى نفسه ويقضى حق الذكرى لولديه (يوسف وبنيامين).ثم يستنجد بالدمع ويجد الراحة مع البكاء.

حتى قال له أولاده:  لا تزال تذكر يوسف حتى تصبح مشرفاً على الموت أو تكون من الهالكين (الميتين) أجابهم بما أخبر الله تعالى به عنه الآية (86) يوسف:

قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ”.

يقول يعقوب عليه السلام:  إن الله لا يخيب رجاءه وأن رؤيا يوسف صادقة ، وأن الله تعالى سيجمع شمله به ويسجد له كما رأى.  وقال لأبناءه التمسوا أخبارهما بحواسكم بالسؤال عنهما.

وامتثل الابناء لأمر الوالد وذهبوا إلى مصر وأتوا إلى دار العزيز وقالوا:   أيها العزيز ها قد رجعتنا الأيام إليك وأرادتنا أن نقف موقف الضراعة والإستكانة بين يديك ..  وللأيام تقلبات وقد جئناك ببضاعة مُزجاة (قليلة) فإن شئت تصدقت بما يقيم الأود وإن أحسنت إلينا بعد ذلك بتسريح أخينا (بنيامين) فإنك بذلك تكون قد خففت دمعة وخففت عن أبيه الشجن.

فقد أعلن يوسف لإخوته عن نفسه ويكشف لهم عن حاله وأن يصفح بكرمه عن زلتهم ويسمو عن إساءتهم.  ثم سألهم عن والده فأخبروه أنه قد عمى من الحزن عليه.

 

 

فقال الله تعالى على لسان يعقوب فى الآية (93) سورة يوسف:

اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ”.

وكان يوسف وملك مصر وألوف من رجال الدولة وأعيان البلاد فى استقبالهم ، وقد ضربت له خيمة.  ولما انتهوا إلى القصر ودخلوا ورفع يوسف أبويه (امرأة أبيه وأباه على العرش (سرير الملك) ، (وخروا له سجدا) تحيةً وتشريفاً وتكريماً على عادة أهل ذلك الزمان ، وهو سجود تحية لا عبادة.  (والسجود عبارة عن إنحناء القامة وليس وضع الجبهة على الأرض).

وهنا قال يوسف:  “يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد ….)  إذ رأى فى صباه أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأهم له ساجدين ، وقوله:  “وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن وجآء بكم من البدو من بعد أن نزع الشيطان…).

هذا ثناء على الله بنعمه وتذكيره للحاضرين بالحادثة وأَلطاف الله تعالى فيها ، ومن كرم نفسه وسمو آدابه لم يقل (أخرجنى من الجب) فيذكرهم بما يؤلمهم بل قال من السجن.  ونسب الإساءة التى كانت من إخوته إلى الشيطان تلطيفاً للجو ومبالغة فى إذهاب الهم من نفس إخوته وختم حديث النعمة فى أعظم فرحة.

وبذلك انقلبت الإحراقات (الإلقاء فى الجب ، البيع رقيقاً بثمن بخس، وفتنة امرأة العزيز ، السجن سبع سنين) إلى إشراقات ملكاً ودولة وعزاً ورفعةً ومالاً وثراءً ، وفوق كل ذلك العلم اللدنى والوحى الإلهى وتأويل الأحاديث.

وبعد أن مات والده (يعقوب) وتاب الله على إخوته ، تاقت نفس يوسف إلى الملكوت الأعلى إلى الجيرة الصالحة إلى رفقةالأخيار آبائه الأطهار (إبراهيم – إسحاق – يعقوب) رفع يديه إلى ربه وقال:

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ”. سورة يوسف الآية (101)

واستجاب الله تعالى دعاءه فلم يلبث إلا قليلاً حتى وافاه الأجل عن عمر يناهز 130 سنة – فارتحل والتحق بأبائه ، فسلام عليه وعليهم وعلى كل صالح فى الأرض والسمآء وسلام على المرسلين.

 

 

(والحمد لله رب العالمين)

 

( والحمدلله رب العالمين )

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً