الدعاء

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمدلله رب العالمين ، رب الأولين والآخرين ، واشهدوا لا إله إلا الله ، ولى الصالحين ، وصلى وسلم على سيد الخلق أجمعين ، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

أما بعد ..

فموضوع الدعاء من الموضوعات الروحية المحببة إلى النفوس ، لأن الدعاء ملاذ كل مكروب ، وأمل كل خائف ، وراحة كل مضطرب به يجأر الإنسان إلى خالقه فى كل وقت لا سيما عندما تشتد الكروب وتنقطع الأسباب وتعجز الحيل.

وقد أمر الله عباده أن يدعوه تضرعاً وخفية ، ووعدهم بإجابة دعائهم.  فقال تعالى فى سورة غافر الآية (60):

)وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ(.

وقال جل شأنه فى سورة البقرة الآية (186):

)وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ا

لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ

يَرْشُدُون(“.

وفى الحديث الشريف: (الدُعاء هو العبادة) أى:  هو جوهرها ولبها لأنه اعتراف كامل من الداعى لربه بأنه هو القادر على تحقيق سؤاله وإقرار منه بعجزه أمام الأحداث ، وأنه محتاج إلى عون الخالق ورعايته ليعطيه ما عجزت عنه قوى البشر.

1.  ومن مزايا الدعاء:   (كل دعوة تحفظ عند الله )

(1)          إما أن يجيب الله عز وجل طلب الداعى (عجلها له فى الدنيا).

(2)          أو يسجل هذا الطلب كنزاً مدخراً (يوم لا ينفع مال ولا بنون) ، (يا ليته لم يكن عجل له شئ من دعائه).

(3)          يغفر له بهذا الدعاء من ذنوبه.

مصداقاً لقوله – صلى الله عليه وسلم – فى الحديث الذى رواه الترمذى عن أبى هريرة – رضى الله عنه قال:  قال النبى – صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له ، فإما أن يُعجل له فى الدنيا ، وإما أن يؤخر له فى الآخرة ، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم ، أو يستعجل يقول: دعوت ربى فما أستجاب لى).

2.ومن مزايا الدعاء:   كثرة الدعاء فى حال السعة والصحة يُدخر وقت المرض والضيق (عند الشدائد).

ثالثــاً:الدعاء وقاية من البلاء ، وحصن منيع من نزول المصائب.

رابعـاً:الدعاء يصد هجمات الكوارث ، ويخفف قدر الله (لا يرد القدر إلا الدعاء).

خامساً: تحيط رحمة الله بالداعى ويتوجه إليه إحسان الله وعنايته (وأنا معه إذا دعانى).

حذرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الإعراض عن الدعاء لقوله تعالى فى سورة الفرقان الآية (77):

(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ).

بمعــنى:  قل لهم يا محمد:  لا يحفل ولا يهتم بكم ربى لولا دعاؤكم وتضرعكم إليه واستغاثتكم إياه فى الشدائد.

آداب الدعاء:

(1)          أن يفتتح الدعاء بذكر الله عز وجل ثم يصلى على النبى – صلى الله عليه وسلم – ثم يسأل حاجته ثم يختم دعائه بالحمدلله والصلاة على حبيبه محمد – صلى الله عليه وسلم (فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين على نبيه وهو أكرم من أن يدع ما بينهما).

مصداقاً للحديث الذى رواه الترمذى وأبوداود وغيرهم من فُضاله بن عبيد – رضى الله عنه:  ولقد علم النبى – صلى الله عليه وسلم – أمته تدعو فقال:  (إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى والثناء عليه ثم ليُصل على النبى – صلى الله عليه وسلم – ثم ليدع بما شآء).

ثانياً:  أن يدعو مستقبل القبلة ، ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه مصداقاً لقوله – صلى الله عليه وسلم – الذى رواه البيهقى وأبو داود عن ابن عباس – رضى الله عنهما:  (سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم).

ثالثاً:يغتنم الأحوال الشريفة مصداقاً لقوله – صلى الله عليه وسلم – فى الحديث الذى رواه الطبرانى عن أبى أمامة – رضى الله عنه: (تُفتحُ أبوابُ السمآء ويستجاب الدعاء فى أربعة مواطن:  عند التقاء الصفوف فى سبيل الله ، وعند نزول الغيث ، وعند إقامة الصلاة ، وعند رؤية الكعبة).

رابعاً:عليك أن تلح فى الدعاء وتكرر ثلاثاً ، مصداقاً لحديث ابن مسعود:  كان عليه الصلاة والسلام إذا دعا دعا ثلاثاً.

وقال النبى – صلى الله عليه وسلم:  (أيها الناسُ !

إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر

المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:  (يَا أَيُّهَا

الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا

تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). المؤمنون الآية (51)

      وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) البقرة الآية (172).  ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السمآء يارب يارب ومطعمُهُ حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجابُ لذلك).  (رواه أحمد ومسلم والترمذى عن أبى هريرة – رضى الله عنه)

خامساً:  يجب أن يصحب الدعاء التضرع ، والخشوع ، والرغبة ، والرهبة مصداقاً لقوله تعالى فى سورة الأنبياء الآية (90):

      (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).

المستحب من الدعاء النبوى الشريف

      عن عائشة – رضى الله عنها – أن النبى – صلى الله عليه وسلم – علمها هذا الدعاء: (اللهم إنى أسألُك من الخير كله عاجله وآجله ، ما علمتُ منه وما لم أعلم.  وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ، ما علمتُ منه وما لم أعلم.  اللهم إنى أسألُك من خير ما سألك عبدك ونبيك ، وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك.  اللهم إنى أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.  وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لى خيراً).    (أخرجه أحمد بن حنبل وابن حبان)

هيا بنا نحفظ هذا الدعاء ونردده بعد كل صلاة ، لكى يحقق الله عز وجل لنا كل خير ويبعد عنا كل شر.

وإليك بعض نماذج الدعاء:

1.  النموذج الأول:للصحابية الجليلة السيدة خلة بنت ثعلبة رضى الله عنها – وملخص قصتها أنها كانت متزوجة من ابن عمها أوس بن الصامت وفى يوم من الأيام حصل بينها وبينه نزاع ، فقال لها:  أنت علىَ كظهر أُمى ، وبعد فترة أراد أن يقر بها فامتنعت عنهُ ، قالت:  فسألت النبى – صلى الله عليه وسلم – عما قاله زوجى.  فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: حُرمت عليه.  قالت: فقُلتُ: إلى الله أشكو فاقتى ووحدتى ووحشتى وفراق زوجى وابن عمى وقد نفضت له بطنى.

ثم رفعت المرأة الطاهرة يديها إلى السمآء وقالت: (اللهم إنك تعلمُ أن زوجى شيخ كبير ، وأنا امرآة عجوز ، ولا غنى له عنى ، ولا غنى لى عنه ، وإن لى منهُ أولاداً إنتركتهم معه ضاعوا ، وإن أخذتهم معى جاعوا، اللهم ففرج كربتى واحلل عقدتى).

وصعدت تلك الدعوات الخاشعات من تلك المرأة

الطاهرة إلى السماء، وأجاب الله دعوتها قبل أن

تقوم من مكانها بجانب النبى – صلى الله عليه

وسلم – فقد نزل الوحى على رسول الله – صلى

الله عليه وسلم – ليُبين حكم الله فى الظهار بقوله

تعالى فى سورة المجادلة: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ

الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ

يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(1) الَّذِينَ

يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ

أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّلائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ ]

مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

(2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ

لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ

تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن

لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن

يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا

ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ

وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

حقاً لقد سمع الله قولها ، وأجاب سؤالها ، وحل قضيتها ، لماذا ؟  لأنها تضرعت إليه بقلب سليم ، ونفس مطمئنة ، ولأنها ما ذهبت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لتشكو إليه زوجها إلا من أجل التقيد بتعاليم الإسلام ، وتحليل ما أحل الله وتحريم ما حرمه ، من حافظ على حُرمات الله حفظه الله.

ماذا نستفيد من هذه القصة؟

1.  أستجاب الله دعائها.

النموذج الثانى:  للصحابى الجليل عاصم بن ثابت بن أبى الأفلح أحد الستة الذين استشهدوا بسبب غدر وفد عُضل والقارة بهم.

      وملخص قصة هذا الوفد أنهم قالوا للنبى – صلى الله عليه وسلم: يارسول الله إن فينا إسلاماً وإيماناً ، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا فى الدين ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام ، فبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم –معهم ستة رجال من أصحابه – وعندما وصلوا إلى الرجيع – وهو ماء لهذيل ناحية الحجاز.  غدر وفد عضل والقارة بهؤلاء الصحابة ، واستغاثوا بقبيلة هذيل لتُعينهم على غدرهم وبغيهم ، والتفت الصحابة فوجدوا عشرات من الغادرين قد أحاطوا بهم ، فلما استلوا أسيافهم ليقاتلوهم قالوا ألهمك إنا والله ما نُريد قتلكم ولكننا نُريد أن نُصيب بكم شيئاً من أهل مكة ، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.

      فقال عاصم:  والله لا نقبل من مشرك عهداً ولا عقداً أبداً ، ودار القتال عنيفاً بين جمع غفير من المشركين الغادرين ، وبين عدد قليل من المسلمين ، وعندما رأى عاصم أن منيته قد اقتربت رفع يده إلى السمآء وقال:  (اللهم إنى حميتُ دينك أول نهارى فاحم لى جسدى آخر نهارى) ، ثم نال الشهادة بعد أن قاتل الغادرين.

وكان رضى الله عنه من الذين أبلوا بلاء حسناً فى غزوة أُحد ، ومن بين الذين أصابهم من قريش مسافح بن طلحة الذى جرى بعد إصابته إلى أُمه سُلافة بنت سعد.  وهو يتخبط فى دمه ، فقالت له:  من أصابك يا بُنى ؟ فقال:  سمعت رجُلاً حينما رمانى يُقول:  خُذها وأنا عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح.  فنذرت لئن تمكنت من رأس عاصم لتشربن فيه الخمر.  ورآها الغادرون من هذيل فرصة لفصل رأس عاصم عن جسده وبيعها لتلك المرأة المُوتُورة ، وتقدموا نحو جسده لينفذوا جريمتهم ولكن الله الذى تكفل بإجابة دُعاء عباده الصالحين ، ارسل جُنداً من عنده (وما يعلم جُنود ربك إلا هو) لحماية جسد عاصم.  أرسل سبحانه جماعة من النحل أحاطت بجثمانه وحالت بين الغادرين وبين ما يشتهُون ، فقالُوا:  دعُوه حتى يأتى المسآء وينصرف عنه هذا النحل فنأتى لنأخُذ الرأس.

ولكن عندما أتى المسآء بعث الله – تعالى – الرياح فاحتملت جسده إلى مكان لا يعلمه سوى علام الغيوب ، ولم يعثر الغادرون له على أثر.

وهكذا استجاب الله تعالى – دعوة عاصم ، فحمى له جسده فى آخر النهار، لأن عاصم حمى له دينه فى أول النهار.

وهذه نماذج للدعاء المستجاب استلهمناها من كتاب ربنا – عز وجل – ومن سُنة رسُولنا – صلى الله عليه وسلم – ومن واقع تاريخ سلفنا الصالح ، وهناك عشرات سواها لو حاولا استقصاءها وإثباتها لطال المقال.

 

( والحمدلله رب العالمين )

 

 

 

 

 

 

 

 

     

اترك تعليقاً