بر الوالدين بعد موتهما

 

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبى الرحمة وعلى أله وأصحابه ومن سن بسنته إلى يوم الدين اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، اللهم إن شئت جعلت الحزن سهلا ً يارب العالمين.

أما بعد:

      فإن بر الوالدين ليس قاصراً على فترة حياتهما بل يمتد إلى ما بعد وفاتهما.

ما الدليل على ذلك؟

الدليـل:

      عن أبى أسيد مالك بن ربيعة قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله – صلى الله  عليه وسلم – إذ جآءه رجل من بنى سلمة فقال: (يارسول الله، هل بقى من بر أبوى شئ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما من بعدهما). أخرجه أبوداود وابن ماجه.  (رياض االصالحين الترغيب والترهيب).

 

بمعـنى:    الصلاة عليهما:  ويراد بها صلاة الجنازة

      الدليل على أنها صلاة الجنازة قول الله تعالى فى سورة التوبة الآية (84):

      (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ )

بمعـنى:لا تصل يا محمد على أحد من هؤلاء المنافقين إذا مات. لماذا؟

لأن صلاتك رحمة، وهم ليسوا أهلاً للرحمة، ولا تقف على قبره للدفن أو الزيارة أو الدعاء.

وقد يكون المراد بالصلاة عليهما فى الحديث المذكور:  الدعاء لهما والدليل على ذلك قول الله تعالى فى سورة التوبة الآية (103):

(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ) 

بمعـنى:  االصلاة من الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الدعاء للصحابة بالخير وإن دعائك رحمة لهم وطمأنينة فى نفوسهم.  الصلاة عليهما هو الدعاء لهم والإستغفار لهما أطلب من الله تعالى أن يعفو عن زلاتهما.

وإنفاذ عهدهما:  العمل بوصيتهما.  

وصلة الرحم: مودة الأقارب المحارم وغير المحارم.

وإكرام صديقهما:  رعاية أصحابهما واجب.

وليس المراد من الحديث حصر ما ينتفع به الميت بعد موته، فهناك أعمال أخرى وردت بها جملة من الأحاديث.

هناك أعمال تكون من عمل الإنسان قبل موته وأما الأمور التى ليست من عمله هو، بل فعلها غيره من أجله.

السؤال هنا:  هل ينتفع بها الميت أم لا؟

هناك بعض القرابات كالصدقة، والصيام والحج والدعاء، وردت فيهم نصوص صحيحة تفيد انتفاع الميت بها.

ثانياً:  إن من خصائص الأمة الإسلامية أن لهم ما سعوا وما يسعى لهم، وليس لمن قبل الأمة الإسلامية من الأمم إلا ما سعى كل واحد لفسه .

وهنا قال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: كما ذكره ابن قدامة فى المغنى: (الميت يصل إليه كل شئ من االخير) وجاء فى معجم المغنى أن أى قربة يفعلها الحى ويهيب ثوابها للميت تنفعه إن شاء الله.

مظاهر بر الوالدين بعد موتهما:

تشمل:  االصلاة، االصيام، الحج، الصدقة، الدعاء والاستغفار، قراءة القرآن للميت، إنفاذ عهد الوالدين، صلة رحمهما، إكرام أصدقائهما، أن يكون الإبن أو الإبنة صالح فى نفسه لأن ذلك يسرهما.

الصلاة عليهما: هو الدعاء لهما وصلاة الجنازة عليهما. 

ثانياً:  الصيـام:

      حديث ابن عباس – عند البخارى ومسلم: (أن امرأة قالت: يارسول الله إن أمى ماتت وعليها صوم نذر فقال: (نعم أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدى ذلك عنها) (فصومى عن أمك).

الحديث الثانى:

      أن امرأة قالت له: إنه كان على أمى صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: (صومى عنها).

الحديث الثالث:

      عن عائشة – رضى الله عنها (من مات وعليه صيام، صام عنه وليه).

ثالثاً:  الحج:

      جآءت امرأة من جهينة إلى النبى – صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن أمى نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفاحج عنها؟ قال:( حجى عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا، فالله أحق بالقضاء) رواه البخارى عن ابن عباس.

      بل أن االنبى – صلى الله عليه وسلم – رغب فى ذلك،قال: زيد بن أرقم عن النبى – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (إذا حج الرجل عن والديه تقبل منه ومنهما، واستبشرت أرواحهما فى السماء وكتب عند الله براً).

      وعن بن عباس – رضى الله عنهما – عن النبى – صلى الله عليه وسلم: (من حج عن أبويه، أو قضى عنهما مغرماً بُعث يوم القيامة مع الأبرار).

      فهذا كله يدل على انتفاع الميت بحج االغير عنه لكن العلماء قالوا: (يشترط أن يكون القائم بالحج عن الغير قد أدى الفريضة عن نفسه).

الدليـل:الحديث الذى رواه أحمد وأبو داوود عن بن عباس أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سمع رجلاً يقول: لبيك عن شُبُرمة، فقال: من شُبُرمة؟ قال: قريب لى، قال: هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شُبُرمة).

      وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار كلها عبادات بدنية وقد أوصل الله نفعها إلى الميت وهذا من كتاب المغنى لابن قدامة الحنبلى جزء 3 ص 325.

رابعاًالصدقة:

      عن الميت أمر مشروع جآءت به الأحاديث الصحيحة، وحكى النووى بالإجماع على أنها تنفع الميت ويصله ثوابها، سوآء كانت من ولده أم من غيره.

الدليـل:حديث أبى هريرة – رضى الله عنه قال: أن رجلاً قال للنبى – صلى الله عليه وسلم: (إن أبى مات، وترك مال، ولم يوصى، فهل يكفر عنه أن اتصدق عنه؟ قال: نعم)  رواه مسلم وأحمد.

الحديث الثانى:

      وعن أنس – رضى الله عنه – أن سعداً أتى النبى – صلى الله عليه وسلم فقال: (يارسول الله، إن أمى توفيت، ولم توصى، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم، وعليك بالماء)  رواه الطبرانى فى الأوسط.

خامساً:  الدعاء والإستغفار:

الدعاء للميت متفق على مشروعيته وهو نافع إن قبله الله، ومن أقوى الأدلة على مشروعيته هذا الحديث:

عن أبى هريرة – رضى الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: (إذا مات إبن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.

وليس الدعاء المشروع قاصراً على كونه من الولد بل دعاء الغير مثله الدليل: قول النبى – صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبو داوود والبيهقى.

وكان النبى – صلى الله عليه وسلم – إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (اسغفروا لأخيكم، وسلوا التثبيت، فإنه الآن يُسال) رواه أبوداوود عن عثمان بن عفان.

ومن الأدلة على مشروعية الدعاء الأمر به (وقُل رب ارحمهُما) والإستغفار نوع من الدعاء فهو طلب لمغفرة الذنوب.

من دعاء النبى – صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لحينا ولميتنا).

الحديث الثانى:

عن أبى هريرة – رضى الله عنه مرفوعاً (إن الرجل لترفع درجة فى الجنة، فيقول: أنى هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك).

وكان النبى – صلى الله عليه وسلم – يُعلم من يزور القبور أن يسلم على الموتى، ثم يقول: (غفر الله لنا ولكم) أو (نسأل الله لنا ولكم العافية) رواه مسلم – أحمد – ابن ماجه.

وقبول الإستغفار فهو فضل من الله وحده والموضوع كله محل الرجاء وأن يكون المدعو له مؤمناً.

سادساً:  قراءة القرآن للميت:

ثبت أن الملائكة تنزل لسماع القرآن الكريم وأن المجلس الذى تنزل إليه تناله الرحمة، كما ورد الإرشاد إلى قراءة بعض القرآن عند الميت عسى أن تناله بركة هذه القراءة بحضور الملائكة ومعها الرحمة.

الدليـل:روى مسلم عن أبى هريرة – رضى الله عنه قال أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشينهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) (الترغيب والترهيب).

وليس استماع الملائكة خاصاً بقراءة القرآن فى بيت من بيوت الله بل يكون ذلك فى أى مكان آخر، وروى البخارى ومسلم عن أبى سعيد الخدرى أن أسيد بن حُضير بينما هو ليلة، يقرأ فى مربده إذا جالت فرسه، فقرأ ثم جالت أخرى، فقرأ، ثم جالت أيضاً، قال أُسيد: فخشيت أن تطأ يحيى، فقمت إليها، فإذا مثلُ الظلة فوق رأسى فيها أمال السُرج عرجت فى الجو، حتى ما أراها. قال: فغدت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت يارسول الله، بينما أنا البارحة فى جوف الليل أقرأ فى مربد إذ جالت فرسى فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: (تلك الملائكة تستمع لك لو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم).

المربد:  هو المكان الذى يهيأ فيه المحصول الزراعى كالتمر.

فهذا الحديث يدل على تنزل الملائكة لسماع القرآن فى أى مكان يقرأ وعن معقل بن يسار أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (قلب القرآن يس، لايقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر الله له اقرؤها على موتاكم) رواه أحمد وأبو داوود والنسائى.

فمن مجموع هذه الأحاديث الثلاثة كانت القراءة على الميت مشروعة وحصول االبركة له منها مرجو.

إن قرأ ابتداء بنيه الميت وصل إليه ثوابه.

اللهم أوصل ثواب ما قرأناه لفلان أو فلانة لأنه إذا نفعه الدعاء فمن باب أولى يجرى ذلك على سائر الأعمال (فهى على كل حال لا تضر إن لم تنفع) قراءة القرآن على الميت.

ولكم أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب لأن الصوم والحج والدعاء والإستغفار كلها عبادات بدنية وقد أوصل الله نفعها إلى الميت فكذلك ما سواها.

قال بعض العلماء:  إذا قرئ القرآن عند الميت أو أهدى إليه ثوابه كان الثواب لقارئه ويكون الميت كأنه حاضرها فترجى له الرحمة إن إجماع المسلمين، فإنهم فى كل عهد وكل عصر ومصر يجتمعون ويقرأون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم ولأن الحديث صح عن النبى – صلى الله عليه وسلم: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه ويحجب عنه المثوبة وهى( قراءة القران)

سابعاً:  إنفاذ عهد الوالدين:

بمعنى:  تنفيذ ما تعاهد الأبوان عليه مع الناس، ولم يتمكن الأب أو الأم من الوفاء به وبخاصة الديون.

فقد ورد عن النبى – صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه الترمذى عن أبى هريرة.

 

الحديث الثانى:

وعن جابر – رضى الله عنه قال: توفى رجل، فغسلناه وكفناه ثم اتينا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليصلى به فقلنا: تصلى عليه، قال: (أعليه دين) قلنا: ديناران، فانصرف.  فتحملها أبو قتاده، فأتيناه فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: (قد أوفى الله حق االغريم، وبرئ منهما الميت؟) فصلى عليه.  رواه أحمد – والدار قطنى.

فيسأل الرسول: (هل ترك لدينه قضاء؟) فإن حُدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: (صلوا على صاحبكم) فلما فتح الله عليه الفتوح، قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوفى وعليه دين فعلى قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته).

والحذر الحذر من التقصير فى إنفاذ االعهد.

وقال بعض العلماء:

      إذا كان الرجل باراً بوالديه فى حياتهما ثم لم يف بعد موتهما بنذرهما، ولم يفى ديونهما كتب عند الله تبارك وتعالى عاقاً وإذا كان لم يبرهما، وأوفى بنذرهما وقضى ديونهما كتب عند الله سبحانه وتعالى باراً.  فى كتاب غذاء الألباب ج 1 – ص 341. 

ثامناً:  صلة رحمهما:

      من مظاهر بر الوالدين بعد وفاتهما صلة الرحم التى لا توصل إلا بهما كالعمات والأعمام والخالات والأخوال وفى هذا الأدب ربط للأسرة، ودعم لصلة القرابة، وسيكون له رد فعل فى حب أقاربه له ومعونتهم له عند الحاجة.

والدليـل:

ما ورد أن النبى – صلى الله عليه وسلم – أمر ببر الخالة حيث لا توجد الأم وقد كان النبى – صلى الله عليه وسلم – يكرم أخت خديجة بعد موتها كمظهر من مظاهر الوفاء لزوجته، فليكن مثل ذلك وفاء ببر الوالدين فى صلة رحمهما.

حديــث:

      عن ابن عمر قال: أتى النبى – صلى الله عليه وسلم – رجل فقال: (إنى أذنبت ذنباً عظيماً فهل لى من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم. قال فبرها)  رواه ابن حبان والحاكم.

فبرها:  أحسن إليها ليزداد ثوابك

تاسعاً:  إكرام أصدقائهما:

      كذلك من بر الوالدين بعد موتهما إكرام أصدقائهما.  الدليل: حديث عبدالله بن دينار أن عبدالله بن عمر – رضى الله عنهما – لقى رجلاً من الأعراب بطريق مكة فسلم عليه، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عُمامة كانت على رأسه قال ابن دينار له: أصلحك الله، إنهم الأعراب، إنهم يرضون بما تيسر فقال عبدالله: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، وإنى سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (إن أبر االبر صلة الولد أهل ود أبيه) رواه مسلم.

      والحديث الثانى:  عن أبى بردة قال: قدمت المدينة، فأتانى عبدالله بن عمر فقال: أتدرى لم أتيتك؟ قال: قلت لا، قال عبدالله: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (من أحب أن يصل أباه فى قبره فليصل إخوان اابيه بعده) وإنه كان بين أبى عمر وبين أبيك إخاء وود، فأحبت أن أصل ذلك.

رواه ابن حبان فى صحيحه.

      وما أكثر الأصدقاء والأقرباء، والولد إذا صار على هذا النهج كان وجوداً ثانياً لأبيه، يخف على نفس الأقارب والأصدقاء وقع فراقه عندما يرون مكانه مملوء بصورة طيبة من خلقه وسلوكه وبره ومعروفه.

      وقال جماعة من العلماء:  إن من بر الولد بوالديه بعد موتهما أن يكون صالحاً فى نفسه، لأن ذلك يسرهما، ويساعد على الدعاء لها على الأقل إن لم يكن هناك أكثر من البر، كما أن الصلوات الخمس قيام بحق الله.  وهذه المشاركة استنتاج من اقتران شكر الوالدين بشكر الله فى مثل قوله تعالى:  (أن أشكر لى ولوالديك).

      فنسأل الله تعالى أن يعيننا على البر بآبائنا وأمهاتنا أحياءً وأمواتاً وأن يجنبنا عقوقهما، وأن يلهم أبنآءنا الطاعة والبر وعدم العقوق، وأن يعطى الآباء سعة االصدر والصبر والرحمة بأبنائهم.

( والحمد لله رب العالمين )

اترك تعليقاً