بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى.
أما بعد،،
فمن فوائد كتاب الفوائد لأبن القيم رحمه الله تعالى هذه الفائدة التى صيغت على شكل شؤال (كيف يفعل من أصابه هم أم غم؟).
فعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب عبداً هم أو حزن ، فقال اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماضي في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله مكانه فرحاً ، قالوا يارسول الله أفلا تتعلمهن؟ قال: بلي ، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن). رواه أحمد في مسنده
((اللهم إني عبدك ، وابن عبدك)).
هناك عبد القهر ، وهناك عبد الشكر ، وشتان بين العبدين ، عبدالقهر بحكم أنه في قبضة الله ، (1) حياته بيد الله ، (2) رزقه بيد الله ، (3) مرضه بيد الله ، كن فيكون ، زُول فيزول ، فكل إنسان مسلم أو غير مسلم ، مؤمن أو غير مؤمن ، مستقيم أو غير مستقيم موحد أو غير موحد أو ملحد في قبضة الله ، بأي ثانية ينهي حياته ، يقطع رزقه ، يصيبه بأمراض وبيلة ، إذاً هو فى قبضة الله هذه عبودية ولكنها عبودية القهر مصداقاً لقوله تعالى فى سورة فُصلت الآية (46):
(وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46))
لكن الإنسان إذا عرف الله إختياراً (1) بمبادرة منه محبة شوقاً ، (2) وأستقام على أمره ، (3) وأقبل عليه ، (4) وتقرب إليه بالاعمال الصالحة ، هذا عبد آخر ، هذا عبد الشكر مصداقاً لقوله تعالى في سورة الحجر الآية (42):
(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (42))
عبدالشكر يجمع على عباد ، بينما عبد القهر يجمع على عبيد.
(اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك).
مصداقاً لقوله تعالى في سورة هود الآية (123):
(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ (123))
إليه يردُ أمر كل شئ ، (1) فينتقم ممن عصى ، (2) ويثيب من أطاع ، أنت في قبضة الله ، (ناصيتي بيدك).
ضربات القلب بيد الله ، الشرايين بيد الله ، إنسداد الشرايين بيد الله ، سيولة الدم بيد الله ، الخثرة بالدماغ بيد الله – رزقي بيد الله ، صحتي بيد الله ، أولادي بيد الله ، من حولي بيد الله ، من فوقي بيد الله ، من تحتي بيد الله ، الأقوياء بيد الله ، الطغاة بيد الله ، المؤمنون بيد الله. (ناصيتي بيدك).
هذا هو التوحيد ، أن ترى أن كل أمرك عائد إلى الله ، التوحيد علاقتك مع جهة واحدة ، أروع ما في هذا الدين أن علاقة المؤمن مع جهة واحدة هي الله ، (1) يرضى الله فإذا أرضى الله أرضى الله عنه كل الخلائق ، (2) إذا أحب الله ألقى محبته في قلوب الخلائق ، (3) إذا هاب من الله ألقى هيبته في قلوب الخلائق ، (4) وإذا أتصل بالله جعل الله علاقته بمن حوله من أعلى ما يكون ، هذا التوحيد – الدين التوحيد.
فلذلك من علامات أنك (عبد الشكر) هو أنك تلتزم بالخضوع لله والإنابة إليه ، (2)وإمتثال أمره ، (3) ودوام الإفتقار إليه ، (4) واللجوء إليه ، (5) والإستعانة به ، (6)والتوكل عليه ، (7) والعياذ به ، (8) والا يتعلق قلبك بغيره ، بل تحبه ، وتخاف منه وترجوه وتعظمه ، هذا معنى العبودية لله عز وجل ، هذا معنى عبد الشكر.
من معاني العبودية لله: أن الأمر كله له وليس لك منه شئ.
أنا يارب عبدك من جميع الوجوه ، والإنسان المؤمن عبدالله (1) صغيراً كان أم كبيراً ، (2) حياً أو ميتاً ، (3) مطيعاً أو عاصياً ، (4) معافي أو مبتلي ، عبدالله بقلبه ، عبدالله بجوارحه ، عبدالله بلسانه ، مصداقاً لقوله تعالى في سورة الأنعام الآية (162):
(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162))
بمعنى: قل يامحمد إن صلاتي التى أعبد بها ربي ، وذبحي (ومحياي) أي ما أعمله في حياتي (مماتي) ما أوصى به بعد وفاتي ، وما أقدمه في هذه الحياة من خيرات ، وطاعات كله لله خالصاً له. وقد أستدل الشافعي على إفتتاح الصلاة بهذا الذكر ، فإن الله أمر نبيه به وأنزله في كتابه ، ثم ذكر حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: إن النبي كان إذا إفتتح الصلاة قال: (وجهُت وجهي للذى فطر السماوات والأرض حنيفا مسلماً ، وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي وحياتي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أُمرتُ وأنا أولُ المسلمين).
ولو تعمقنا كثيراً في مفهوم العبودية النبي عليه الصلاة والسلام في أعلى درجة وصل إليها بشر عند سدرة المنتهى مصداقاً لقوله تعالى في سورة النجم الآية (10):
(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10))
العلاقة عجيبة بين الله وعباده
كلما خضعت لله رفعك الله ، كلما تذللت أمامه في مناجاتك أعلى قدرك ، ويرفع ذكرك ، وثبط عدوك ، ويوفقك وينصرك ورزقك وأعطاك.
إذاً من معاني العبودية لله: أن الأمر كله له وليس لك منه شئ.
ثانياً: إن كل ما تملك لله
مرة إنسان سأل عالماً قال له: كم الزكاة سيدي؟ قال العالم: عندكم أم عندنا؟ قال له: عجيب ما عندنا وعندكم؟ قال العالم: عندكم ربع العشر أما عندنا العبد وما له لسيده وهذا معنى: (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).
المؤمنون الصادقون السابقون أوقاتهم لله ، قدراتهم لله ، خصائصهم لله ، طلاقة ألسنتهم لله ، حكمتهم لله ، رحمتهم من أجل إكرام عباد الله.
ثالثاً: أن كل ما أنت فيه من إنعام الله عليك
يارب انت الذى مننت علي بكل ما أنا فيه ، كلك حسنة من حسنات الله (1)جعلك من أب وأم وهذا من نعمة الله الكبرى ، (2) أعطاك سمعاً أو بصراً من نعمة الله الكبرى ، (3)أعطاك عقلاً ، (4) أكرمك بزوج ينفق عليك ويحبك ، (5) أعطاك أولاداً يملؤون البيت فرحة ، أي أنت يارب مننت علي بكل ما أنا فيه.
رابعاً: عدم التصرف بشئ إلا بأمر الله تعالى
شئ آخر من معاني العبودية لله أنني لا أتصرف يارب فيما أعطيتني من مال ونفس إلا بأمرك.
والعبد الصادق ، الأمين ، المخلص ، لا يتصرف إلا بإذن سيده ، وإني لا أملك يارب لنفسي نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
(اللهم إني عبدك وابن عبدك ، وابن أمتك ، ناصيتي بيدك).
ناصيتي بيدك
من منا يملك حراسة؟
بأي لحظة يفقد الإنسان أحد أعضاءه.
بأي لحظة يفقد الإنسان عقله ، تجد الأب المحترم يسعى من حوله أن يضعوه في
مستشفى الأمراض العقلية ، إذاً عقلك بيد الله.
أنت المتصرف كيفما تشاء ، أما أنا لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً.
كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن).
أي هذا الذى أمامك قوى هو بيد الله ، فإذا كنت مع الله ألقى هيبة عليك ، (2)هذا الذى يريد أن يناك منك بيد الله لا يستطيع أن يتحرك إلا بإذن الله عز وجل.
مثال1: سيدنا هود قال في سورة هود الآية (55 ، 56):
(فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56))
(فكيدوني جميعاً) أي احتالوا على هلاكي وضري ، ثم لا تؤخرون ولا تمهلون طرفة عين.
قال ابوالسعود: وهذا من أعظم المعجزات ، فإنه عليه السلام كان رجلاً مفرداً بين الجم الغفير من عتاد عاد الغلاظ الشداد ، (1) وقد حقرهم ، (2) وهيجهم بانتقاص آلهتهم ، (3)وحثهم على التصدي له فلم يقدروا على فعل شئ وظهر عجزهم عن ذلك ، وذلك لثقته بربه ويعصمه منهم. وقال لهم: إني لجأت إلى الله وفوضت أمري إليه تعالى مالكي ومالككم ، وما من نسمة تدب على وجه الارض إلا هي فى قبضته وتحت قهره.
وأعلمهم أن الله عز وجل قاهر لكل دابة متحكم فيها يقودها حيث شآء ، ثم أعلمهم أن ربه تعالى على طريق العدل والحق فلا يسلط أعدائه على أوليائه.
وقال لهم: إن ربي عادل ، يجازي المحسن بإحسانه ، والمسئ بإساءته ، لا يظلم أحداً شيئاً. ((إن ربي على صراط مُستقيم))
كلمة (على) إذا جآءت مع لفظ الجلالة تعنى أن الله ألزم ذاته العلية بما جآء في الآية بأن يكون على صراط مستقيم بالإستقامة.
تجدي أن أي إنسان (مهمة جداً) قوى يكون ليس مستقيماً ، القوى لا يخشى أحداً لا يعلق أهمية على أحد لأنه قوى ، ولكن عظمة الله عز وجل أنه قوى وعلى صراط مستقيم له الملك وله الحمد.
الله على صراط مستقيم في أقواله ، في أفعاله ، في قضائه ، في قدره ، في أمره ، في نهيه ، في ثوابه ، في عقابه ، الله عز وجل في خبره صدق ، قضاؤه عدل ، أمره كله حكيم.
أيها الأخوة الكرام: الدين أن ترى أن يد الله تعمل وحدها وأنه لن يقع شئ في الكون إلا سمح الله له أن يقع ، وكل شئ وقع أراده الله.
بمعنى: سمح به ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة ، وأنت عندما ترى أن ناصيتك ونواصي العباد بيد الله وحده يصرفها كيف يشآء عندئذ لن تخاف أحداً إلا الله ، ولم يعلق أمله عليهم فهم عبيد مقهورين.
الإنسان الموحد قوي الشخصية ، لا يتضعضع ، ولا يتذلل ، ولا ينبطح ، لا ينافق لا تضعف شخصيته لأنه مع الله عز وجل متى شهد الإنسان أن ناصيته بيد الله وأن نواصي العباد بيد الله أيضاً يصرفها كيف يشآء ، لم يخفهم ، ولم يُعلق أمله عليهم ، ولم ينزلهم منزلة المالكين ، بل منزلة عبيد مقهورين ، المتصرف فيهم هو الله ، والله مُدبر شؤونهم يعرف أن كل من في الكون بيد الله.
مثال1: لذلك الصحابة الكرام في بدر فوضوا أمرهم إلى الله ، وافتقروا إليه فانتصروا ، قالوا: الله ، فالله تولاهم ، هم هم ومعهم سيد الخلق في حُنين قالوا: (نحن كثرة لن نُغلب من قلة).
كما أخبرنا الله عز وجل في سورة التوبة الآية (25 ، 26):
(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا (26))
بعد فتح مكة جآء مالك بن عوف رئيس هوازن وساق معهم أموالهم ومواشيهم ونسآءهم وأولادهم وكانوا أربعة آلاف ، ومعه جنود من ثقيف واختبئوا في الجبال القريبة من وادي حُنين (وادي بين الطائف ومكة) وكان المسلمون 12 ألف – فلم تنفعكم الكثرة ولم تدفع عنكم شيئاً – الله عز وجل يخبرهم أن النصر بيد الله ، وأن النصر من عند الله ، وأنه ليس بكثرة العدد والعدة – إن الله ينصر القليل على الكثير إذا شآء.
أخذت فرسان مالك في ضرب المسلمين بالرماح والسيوف وانقضت عليهم فهربوا وتفرقوا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال النبي: أنا النبي لا كذب – أنا ابن عبدالمطلب ، وأخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه المشركين ففروا ، فما بقى أحد إلا وهو يمسح عينيه ، ثم أنزل الله عز وجل رحمته التى تسكن بها القلوب وتطمئن إليها. وأنزل الملائكة يقوون المؤمنين ويضعفون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ، والملائكة لم تحارب في هذه الغزوة ولكنها حاربت في غزوة بدر – وعذب الله الكافرين بالقتل والأسر وسبى النسآء والذراري.
أيها الأخوة: أرغب فيما عند الله يحبك الله
وأزهد فيما عند الناس يحبك الناس
من فهم ، من شهد هذه المعاني لم يحتاج إلى الناس ولم يعلق أمله عليهم ولم يرجو ما عندهم.
باقي الحديث:
(ماضي في حكمك ، عدل في قضاؤك)
مصداقاً لقوله تعالى في سورة الرعد الآية (11):
(وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11))
بمعنى: إذا أراد الله تعالى هلاك قوم أو عذابهم لا يقدر على رد ذلك أحداً ، وليس لهم من دون الله ولي يدفع عنهم العذاب والبلاء.
قال أبو ذر الغفاري – رضي الله عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال الله تعالى:
(ياعبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيب كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر ، ذلك لأن عطائي كلام ، كن فيكون ، وأخذي كلام ، ياعبادي فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). رواه مسلم والترمذي
وكما قالوا:
الشريعة عدل كلها ، مصلحة كلها ، رحمة كلها ، حكمة كلها أي قضية خرجت من العدل إلى الظلم ، ومن المصلحة إلى المفسدة ، ومن الحكمة إلى خلافها ومن الرحمة إلى القسوة فليست من الشريعة.
الحياة الدنيا فيها متاعب وأحزان وهموم والمؤمن إذا أصابه هم أو حُزن عليه بهذا الدعاء:
(ما أصاب عبداً هم ولا حزن ، فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماضي في حكم ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك ، أو أستأثرت به عندك أن تجعل القرآن العظيم بيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله مكانه فرحاً). رواه أحمد بن حنبل – عن عبدالله بن مسعود
((والحمدلله رب العالمين))