بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى.
أما بعد ،،،
فسورة المطففين من السور المكية التي تتحدث عن الإيمان بالله عز وجل ، فلو دققت في موضوع هذه السورة لوجدته مغايراً لكل السور المكية التى جاءت قبلها والتى جاءت بعدها.
قال بعض علماء التفسير: إن هذه السورة جآءت بهذا الشكل تأكيداً إلى أن التقصير في حق صغير من حقوق البشر موجب للهلاك ، فكيف التقصير بأكبر حق من حقوق الإله.
إذا طففت في الوزن أو في الكيل فهذا موجب للهلاك يوم القيامة ، فكيف إذا أنكرت الخالق؟؟
ما هي الحكمة من مجئ هذه السورة في الجزء الأخير من كتاب الله؟
فحكمة مجئ هذه السورة في الجزء الثلاثين من كتاب الله حيث (1) الحديث عن السماوات والأرض ، (2) والحديث عن اليوم الآخر ، (3) والحديث عن عظمة الله عز وجل ، وكلكم يعلم أن السور المكية ترسخ الإيمان بالله عز وجل ، فكيف جآءت هذه السورة وسط سور عديدة تتحدث عن الله عز وجل؟ بينما هذه السورة تتحدث عن علاقة جزئية بين الناس ، إلا وهي التطفيف؟
ما حق الإنسان عليك إذا كنت (البائع)..
(1)حقه أن تُعطيه بضاعة بهذه القيمة ، فإذا قللت من نوع البضاعة ، أو من وزنها أو من كيلها أو من حجمها فقد قصرت في حقه ولو كان هذا التقصير طفيفاً ، أما حق الله عليك وقد خلقك من نُطفة وسخر لك الشمس والقمر والنجوم فكيف تنكره؟ وكيف تجحد فضله؟ وكيف تُعصي أمره؟ وكيف لا تنتظر حسابه؟ (وهذا موجب للشقاء الأبدي)
معنى التطفيف: المطففون: جمع مُطفف ، والشئ الطفيف هو الشئ القليل.
فإذا كنت قد بعت كيلو جراماً من التمر وكان الوزن أقل من الوزن الصحيح بتمرة واحدة فهذا يعتبر تطفيفاً.
أمثلة للتطفيف
مثال1: كم من الأبنية التى أنهارت بسبب وضع المتعهد أسمنتاً أقل من الكمية التى فرضه المهندس؟ فالمتر المكعب من الخرسانة يلزمه وضع سبعة أكياس من الأسمنت ، وهو وضع خمسة وبعد فترة من الزمن أنهار البناء ، فإذا مات ثلاثون أو أربعون شخصاً برقبة من؟ برقبة المطفف.
(2)كذلك الحديد ، إذاً كل عملية تنقيص وزن ، أو تنقيص كيل ، أو تنقيص نوع ، وكل عملية غش ، وكل عملية عدم إتقان ، يدخل في هذه الآية (1) سورة المطففين:
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
مثال2: يقوم مصلح السيارات. بتوفير جزء من الوقت ، فيسرع في إصلاح السيارة ، فيسبب كارثة لأصحاب هذه السيارة ، فلا يضبط عمله قبل أن يُسلم هذه السيارة لأصحابها – فيتسبب في حادثاً كبيراً يموت فيه خمس أشخاص مثلاً فهو مطفف ولكن يحاسب على موت هؤلاء الخمسة.
مثال3: المحامي: يعلم أن هذه الدعوى خاسرة ، ومع ذلك يقبل على نية أن يتقاضى أجراً إلى أن يُظهر الأمر ، فتطول الفترة إلى خمس سنوات أو أكثر ويكون قد إبتز موكله ، وهذا داخل في هذه الآية (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1).
مثال 4: الطبيب: أحياناً طبيب يأتيه مريض ، فلم يفهم مرضه ، ولم يستطع تشخيصه ، وله زميل مختص بهذا المرض ، فيعطي المريض مُسكنات على أن يراجعه بعد أسبوع ، فهذا التصرف كله إبتزاز ، وهذا الطبيب داخل في مفهوم هذه الآية أن يرشده إلى زميله الطبيب المختص ليعالجه.
ثانياً: وأحياناً الطبيب يكلف المريض بإجراء ثمانية تحاليل مثلاً والمريض بحاجة إلى تحليل واحد ويكون هذا الطبيب متفقاً مع محلل ، إن المطلوب من التحاليل هو المكتوب في أول القائمة وما تبقى من الثمانية غير مطلوب ، وهذا الفرق يتقاسمه بينهم مناصفة هذه سرقة.
ثالثاً: أحياناً يوزن شئ ثمين بورق سميك ، أصبح سعر كيلو الورق بمئة وخمسين جنيه.
رابعاً: بائع الأقمشة: عندما يشتري القماش يشتريه مرخياً ، وإذا أراد بيعه يظل يشده حتى آخر مدى له وهذا داخل في التطفيف.
مثال5: أحياناً يكون هناك متعهد لتقديم طعام لأُناس فقراء ، يكون المقدار مئتين جرام من اللحم هو يقدم مئة جرام فقط ويقول لمن يعترض: من أستلم مني رضى بذلك ، لكن الله لا يرضى عن ذلك ، فدخل في الآية (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) .
مثال6: أكثر المطاعم إن طلبت ربع كيلو يعطيك 150 جرام فقط ونصف هذه الكمية دهناً.
مثال7: وحتى يربح صانع الطحينة يضع فيها سيبداج ، فهذا يدخل في صناعة الدهانات ، والطحينة طعام المسلمين يدخل إلى المعدة ويسبب أمراضاً خبيثة ولا يُهضم ويذهب إلى الكلى فيتعبها ويسبب لها إلتهاباً.
مثال8: قال لي أحد الأشخاص: إنهم يضعون في الزعتر نشارة الخشب ، والحليب إذا غُش بالماء فالماء لا يؤذي ، ولكن النشارة تُؤذي.
مثال9: وأصحاب محلات قطع الغيار يبيعونك قطعة مقلدة على أنها أصلية ، فالغش تطفيف.
مثال10: يخلط السمن الحيواني الردئ المستورد مع السمن البلدي ، وهذا أيضاً من تطفيف.
فهذا الذى لا يخاف الله عز وجل يفعل كل شئ ، أي مهما كان الذنب خطيراً يفعله …
شئ آخر من التطفيف: إذا خدمك إنسان خدمة ، وأنت لم تكافئه ، فهذا من التطفيف ، كلفت إنساناً بعمل ، وقدمه لك ولم يرضى أن يأخذ ثمنه ، فأنت عليك أن تكافئه بهدية ، ترك المكافأة من التطفيف مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أستعاذ بالله فأعيذوه ، ومن سألكم بالله فأعطوه ، ومن أستجار بالله فأجيروه ، ومن أتى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه)).
متى لك الحق أن تقول للذى أسدى إليك معروفاً: جزاك الله خيراً؟
في حالة واحدة ، إن لم تجد ما تكافئه به فأدع له.
إذا تركت المكافأة ولم ترد على الإحسان بإحسانه مثله ، فإن أعارك أحد شيئاً فأرجعه له متقناً.
مثال1: استعار كتاباً يجلده ولو بغلاف من النايلون ، ولو بغلاف لونه أزرق ، وأرجعه إليه مجلداً.
مثال1: (التطفيف المعنوي)
الأبن أحضر لزوجته عربية ، فأمه تقيم النكير عليه لماذا؟ تقول له: أنها لا تستحق ، أما إذا الصهر أحضر لأبنتها السيارة فإنها تقول: (الله يرضي على فلان – لماذا هذه التفرقة في المعاملة؟).
مثال2: الأم دائماً تدلل أبنتها ، إذا نامت متأخرة فلا مانع ، ولاشئ عليها ، أما إذا كان عندها مرات أبنها في البيت ، وكان رأسها يتألم ونامت باكراً فالويل لها ، تقول لزوجها: هذه كسلانه وأنها تتمارض ولا تشكو من شئ ، لماذا هذا الكلام؟ (زمان)
مثال3: إذا كان عندك عامل تُعامله معاملة قاسية ، أما أبنك فتخاف عليه من الهواء .. لماذا؟ ……. فهذا أيضاَ تطفيف لنقصه حقه.
إذاً هناك: (1) تطفيف مادي ، (2) وتطفيف معنوي ، (3) تطفيف غش ، (4) تطفيف عدم إتقان (5) تطفيف تنقيص وزن ، (6) تطفيف تنقيص كيل ، (7) وهناك تخفيض المستوي النوعي ، هذا كله من التطفيف، الله عز وجل قال: (ويلُ للمطففين) كلمة ويلُ: (وادى في جهنم تستعيذ منه جهنم). أنها الهلاك للمطففين ، فإذا طففت بحق إنسان قليلاً ، فالويل لك ، فكيف إذا تركت حق الله كله؟ أو أنكرت أو جحدت حق الله كله .. قال بعض المفسرين : (ويل) دعاء من الله تعالى على هؤلاء المطففين ، ودعاء الله عزوجل غير دعاء البشر ، فدعاء البشر يُستجاب وربما لا يستجاب ، لكن دعاء الله قرار قطعي ، أي أن المطففين خسروا وهلكوا وانتهى أمرهم ، وكل منا لا يزال حياً ، ومادام الإنسان حياً فباب التوبة مفتوح على مصرعيه مصداقاً لحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذى رواه أنس بن مالك قال: (سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: قال الله تعالى: (يا أبن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي يا أبن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ، يا أبن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لآتيك بقُرابها مغفرة) الترمذي.
سؤال: من هم المطففون؟
جواب: قال الله عز وجل: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2).
لكن الذى ينبغي أن يقال: “الذين إذا اكتالوا من الناس ، واشتروا منهم كيلاً أو أشتروا منهم وزناً”.
من معاني على الستعلاء ، استخدم ربنا الفعل (اكتالوا على) وعدم استخدامه (إكتال من) إشارة إلى أن (إكتال على) بمعنى ألزم المشترى البائع أن يقدم له حقه كاملاً.
(وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) إذا أشترى يستوى حقه كاملاً ، أما إذا باع فينقص هذا الحق إما كيلاً أو وزناً أو مساحة أو طولاً أو غشاً أو عدم إتقان ، (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
كيف غاب عن ذهنهم أنهم سوف يقفون بين يدي حاكم عدل؟
كيف غاب عن ذهنهم؟ هذا اليوم العظيم ، الذى يقوم فيه الناس لرب العالمين؟
كيف غاب عنهم أنهم سيحاسبون على هذه الأعمال حساباً عسيراً ، كيف غاب عنهم أنه سيدفعون الثمن غالياً.
(أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) ربنا عز وجل هذا عجب.
كلمة (أولئك) تعني أناساً كثيرين ، حتى أن بعضهم قال: حينما بُعث النبي عليه الصلاة والسلام كانت مكة تضجُ بهذه الظاهرة ، تطفيف الوزن والكيل ، ولا تنسوا أن قوم سيدنا شُعيب أهلكهم الله عز وجل بهذا الذنب.
لذلك فعلامة المؤمن ليست الصلاة ولا الصوم ولا الحج ، ولا الزكاة ، ولا قراءة القرآن علامة المسلم أنه إذا عمل عملاً فكأن هذا العمل لنفسه وعليه أن يتقنه إتقاناً شديداً ، والشئ المؤكد أن الذى يتقن عمله يتفوق بين أقرانه ، فقانون الله عز وجل جعله عاماً ، حتى لو أخذ به الكافر لتفوق بمقتضى هذا القانون – فمن أتقن عمله تفوق في أي مصلحة كانت ، فلا تعجبوا إذا رأيتم الناس مقبلين على إنسان بمصلحة معينة يقول لك: عمله متقن ، وصنعته متقنة ، حاجته نظيفة ، بضاعته جيدة ، وزنه صحيح لا يغش ، ولا يأكل مالاً حراماً ، فالذى يطبق هذا القانون يغتني في الدنيا قبل الآخرة.
الآية (6) (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
هذا اليوم العظيم الذى يحاسب فيةالناس جميعاً على أعمالهم ، يقومون لهذا الرب بين يديه ، هنا ربنا عز وجل ذكر اسم الربوبية ، لأن الرب لا يظلم عباده ، لا يدع مظلوماً ولا يدع ظالماً ، يأخذ حق المظلوم من الظالم ، كلا: أداة ردع أن لا تفعلوا هذا دعوا التطفيف وأتركوه على الفور (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
كلا: دعوا التطفيف بكل أنواعه ، ما قل منه وما كثر ، ما ظهر منه.
قال المفسرون: الفجار هم المطففون – الله عز وجل بدل اسما باسم ، كأن كل مطفف فاجر ، “إن كتاب الفُجار لفي سجين”.
أن هذا الكتاب يكفي أن يقوده إلى السجن (جهنم) هذا الكتاب قيد لهم ، يؤخذ بهذا الكتاب وكل عمله مسجل.
(سجين) من الفعل سجن أي أن هذا الكتاب من سماته أن يسجن صاحبه في النار إلى أبد الأبدين ، وهذا الكتاب إذا أصر صاحبه عليه ولم يتب منه أن يورده النار.
كل تطفيف فعله الإنسان مسجل عند الله كتابه وصوره وسوف يطلعه عليه يوم القيامة. ما الذى جرأ الناس على التطفيف؟؟
فالذى جرأهم على التطفيف عدم إيمانهم باليوم الآخر ، وإلا فلو ءامنوا عرفوا أنهم يقومون بين يدي الله ، يحاسبهم على القليل والكثير ، لأقلعوا عن ذلك وتابوا منه.
“ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)“
مرقوم: من الرقم أي كتاب مرقم ومختوم يصعب تزويره ، أي أن كل شئ عملته ألتقطت له صورة ، فأحياناً يأخذ إنسان لشخص آخر صورة وهو في وضع مُشين فهل يستطيع أن نقول: لا ليست هذه صورتي؟
فربنا عز وجل أبان ذلك ، فكل تطفيف فعله الإنسان في الدنيا مسجل عند الله عز وجل كتابه وصوره وسوف يطلعه على عملية التطفيف يوم القيامة. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)
(1)هؤلاء الذين كذبوا بيوم الدين ، (2) هؤلاء الذين كذبوا بحساب الله عز وجل ، (3)هؤلاء الذين استخفوا بأوامر الله ولم يعبؤا ولم يهتموا بزجره ولا بنهيه.
الذين يكذبون بيوم الدين (وما يكذب به إلا كل معتد أثيم)12
أنظر إلى هذا القانون الجديد ، فهنا أسلوب حصر المعتدي على حقوق العباد والآثم في معصية الله هؤلاء الرجلان عادة يكذبان بيوم الدين.
فإذا كذب المرء بيوم الدين دقق في عمله تراه معتدياً أثيماً.
قال تعالى: “أرأيت الذى يُكذب بالدين ، فذلك الذى يدعُ اليتيم”.
ربنا عز وجل قال: بيوم الدين وتؤمن بالحق ، فالحق لا يحتاج إلى أذن ولا إلى فكر ولا إلى كتاب ، الحق يحتاج إلى إستقامة ، فإذا أستقمت آمنت به ، وطبقته ، وملأ الحق قلبك ، وأعجبت به قد يستغرب أحدكم فيقول: (ما علاقة الإستقامة بالإيمان؟) ، إنها علاقة مصيرية ، علاقة ترابطية ، علاقة سبب بنتيجة ، ومن يؤمن بالله يهدي قلبه ، ومن أخلص لله أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ، خذ هذه القاعدة.
( وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
لذلك يكفي أن تستقيم حتى تؤمن بالله “إذا لم يكن هناك شئ واضح لك فاستقم ، فالإنسان أحياناً لأنه غير مستقيم تجده يجير الحق لمصلحته ، ويفسر القرآن وفق هواه ، وهذا الذى ذكره الإمام الغزالي: التفسير بالرأي أي يؤول آيات القرآن الكريم لمصالحه”.
كأن يقول الله عزوجل:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً (130) آل عمران.
يقول الله: لم ينهنا عن الربا بل نهانا عن آكله أضعافاً مضاعفة ، يريد أن يجير الآيات لمصلحته ، لأن مُراب.
ويقول لك: لا إنك لا تفهم معناها ، وهذا هو تفسيرها ، وقد سألت عنها ومعي فتوى بذلك.
وعندما ينكر الإنسان الحق أو يرده فهو غير مستقيم ، فلو أنه أستقام على أمر الله لآمن به ولقى ثماره يانعة.
مصداقاً لقوله تعالى:
(وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
تجدي آية مثل الشمس يقول لك: الحديث لا يفيد ، فلا داعي للتحدث فيه ، ولو قلت له: سيدنا نوح ، يقول لك سيدنا نوح ماذا تريد منه الآن ، فقد مات من آلاف السنين ، وإن قلت له: سيدنا يوسف قال: (رب السجن أحبُ إلي مما يدعونني إليه) فلا يتركك تتكلم ، ويقول لك: هل هذا عصر سيدنا يوسف فإن تكلمت معه عن التاريخ يرفضه ، وإن تكلمت مستشهداً بالآيات يرفضها كذلك ، لأنه معتد أثيم.
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
يريد أن تحدثه في شئ جديد كالكمبيوتر ، أو تكلمه عن مشروع تجاري ناجح ، أو يريد دخلاً كبيراً أو سيارة فارهة ، أو فيلا في مصيف ، أو مركزاً أو مكانة مرموقة ، أو حياة ناعمة أو مباهج ، فلا تعنيه سيرة سيدنا نوح أو سيدنا إبراهيم ، فهذه القصص ليست لها قيمة لديه.
علامة المؤمن أن تراه مأخوذاً بآيات الله:
لو أخبرته عن وزن الحوت البالغ مئة وثلاثين طناً يقول لك: ماذا نريد منه فهذا يدل على عظمة الله عز وجل وهذا لا يهتم به ، الأرض سرعتها في الثانية ثلاثون ألف كيلومتراً أي أنها تسير في الساعة الواحدة مئة وثمانية ألاف كيلو متر.
وعلامة المؤمن أن تكون هذه الآيات الكونية ملء سمعه وبصره وعلامة المنافق أو الكافر لا يعبأ بها ، ويقول لك: إنظر إلى الطائرة الجامبو العملاقة فوزنها ثلاثمئة وخمسون طناً وتحمل ستمئة راكب ، وثمنها ثلاثمئة مليون دولار (300) فتجده مأخوذ بسعرها ، ومأخوذاً بمواصفاتها وبصوتها المنخفض.
أما المؤمن
مأخوذ بالشمس ، مأخوذ بالقمر ، وبهذا الكون وما فيه من مجرات ، وبهذه الثمار ، وبهذه الفاكهة ، وبهذا الماء العذب الفرات ، مأخوذ بالجبل ، بالبحار ، بخلق الله عز وجل ، وكيف كان الإنسان نقطة من ماء مهين ثم صار طفلاً ، صار خلقاً سوياً ، مأخوذ بمظاهر الكون ويقول المنافق والكافر هذه أشياء قديمة لا تنفعنا وهي ليست من روح العصر.
وهذه الأشياء كانت لأُناس سُذج ، وكل هذا كان حينما كانت البشرية في بدايتها ، في طفولتها حيث أخذت بها ، أما نحن في عصر العلم ، إذا سمعت أحدهم يقول هذا فأعلم أنه: معتد أثيم وأنه يكذب بآيات الله عز وجل وأغلب الظن أنه مُطفف “وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ“.
(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
هذه علامة بعض الناس ، يريد المال من أي طريق ، بطريق مشروع أو غير مشروع ، يجوز أو لا يجوز … سواء كان كثيراً أم قليلاً لا يهمه إلا المال فقط ، لذلك فُقدت البركة ، ولذك أصبحت الأمراض كثيرة ، (1) مرض واحد يستهلك ما جنيته في العمر كله ، (2) والأسعار غالية ، فثمن زرع كلية (100,000جنية) ، (3) فمرض بسيط يستهلك عمل خمس سنوات لأن هناك تطفيفاً ، أما إذا كان المال حلال ، ودون تطفيف فإن الله عز وجل (1) يبارك لك فيه فتعيش في بحبوحة ، (2) وفي صحة تامة ، (3) وفي سرور وسعادة ، (4) وأنت في خير وعافية ، فلذلك أنا أقول جنية حلال أحسن من مئة حرام ، فإذا حصلت على المئة بالتطفيف فمعنى ذلك أن هناك عقاباً أليماً في الدنيا قبل الآخرة.
إذا كان العقاب في الدنيا تذكيراً فهو نعمة أما إذا كان في الآخرة فهو عقاب آليم.
مثال1: نشب حريق في شارع بكامله قديماً ، وفي الشارع سوق تجارية ، أحد التجار عنده بضاعة أحترقت في يوم واحد ثمنها ثلاثة ملايين جنيه فهل هذا المال قليل؟ لقد قضى هذا التاجر في جمع المال عشرين سنة ، والله جمع هذا كله وأتلفه في يوم واحد ، كذلك والله يحبه لأنه يذكره في الدنيا قبل الآخرة.
(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
فكل معصية تسبب غشاوة بينك وبين الله ، غشاوة فوق غشاوة حتى يصبح الران ، والران هو حجاب كثيف بين العبد وربه.
الآية: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
هذا الكسب الحرام ، هذا التطفيف ، هذا الغش في البيع والشراء ، هذا النقص في المكيال هذا النقص في الميزان ، هذا النقص في الكيل ، هذا النقص في المساحة ، هذه الخدمة غير المتقنة ، هذا الكذب ، هذا كله تطفيف. أي أن الإنسان لم يأخذ حقه منك بل أخذ أقل من حقه ، وجُرت عليه ولا أعتقد أن هناك مصلحة في الأرض إلا ولها
علاقة بهذه الآية:
(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
قال المفسرون: هناك حجاب رؤية ، وهم محرومون من هذا الجمال وهذه النظرة ، وهناك حجاب تحقير ، وهؤلاء الفجار المطففين يوم القيامة ، محجوبون عن ربهم إلا يغار الواحد ويتألم بأن يكون مع المحجوبين؟ مع المحرومين؟
مثال1: إذا ظهر إسم طالب غش في الإمتحان ، وصدر قرار بحرمانه ثلاث دورات ، وأُذيع هذا القرار على الأشهاد ، ألا يتألم؟ هذا ألم نفسي. (ثم إنهم لصالوا الجحيم ،16 ثم يقال هذا الذى كنتم به تكذبون).17
هذا يوم الدين ، يوم القيامة ، يوم الفصل ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، وكل إنسان يأخذ حقه كاملاً ويُعطي حقه كاملاً.
فهذه السورة والله الذى لا إله إلا هو تقطع الظهر وتقضم العظم ، وليست هناك مصلحة من مصالح الأرض إلا وهي داخلة تحت مظلة هذه السورة ، وإذا كان التطفيف هذا عقابه فكيف يكون عقاب التقصير بحق الله عز وجل؟؟؟
(( والحمدلله رب العالمين ))