بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء وسيد المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد،،،
ذكر أيوب عليه السلام فى القرآن الكريم أربع مرات فى سورة النسآء والأنعام والأنبياء وفى سورة (ص) نسبه: إن أمه بنت لوط – وأن أباه ممن آمن بإبراهيم كما حكى بن عساكر .. أيوب بن موص بن رازق بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وهو من ذرية إسحاق. إبراهيم عليه السلام كان له ولدان إسماعيل وإسحاق جميع الأنبياء من ذرية إسحاق ماعدا رسول الله محمد فهو الوحيد الذى جآء من إسماعيل – من إسحاق جآء يعقوب عليه السلام ويعقوب يسمى إسرائيل – يعقوب كان له 12 ولد – الأولاد كانوا يسمون الأسباط – فأيوب من ذرية إسحاق عليه السلام ويقول القرآن الكريم: (ومن ذريته داود وسُليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون).
أيوب كان نبياً مرسلاً – ويقول الله تعالى: (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب).
بعثه الله إلى قوم حوران فى الشام وكان غنياً قد أعطاه الله النعيم (1) كان عنده الدواب الكثيرة ، (2) وكان عنده أعداداً هائلة من العبيد ، (3) ورزقه الله كثير من الأراضى ، (4) وكان تاجراً كثير التجارة ، (5) ورزقه الله كذلك الأولاد – فكان له سبع صبيان وسبع بنات ، (6) وكان صاحب صحة موفورة وقوة ، (7) وكثير من الأصحاب وكان منعم فى الأرض.
كان هناك حديث بين الملائكة عن الخلق وعبادتهم ومعصيتهم أو طاعتهم قال قائل منهم: ما على الأرض اليوم خير من أيوب – إنه مؤمن قانت ساجد – عابد – بسط الله فى رزقه وآخر فى أجله – وفى ماله حق معلوم للسائل والمحروم وأيامه عباده لربه وشكر لنعمائه – وعبادته حجة على الأغنياء والمترفين من خلقه.
سمع إبليس هذا ولم يكن محجوباً عنهم أو بعيداً عن ساحتهم فساءه أن يكون رجل فى الأرض يعبدُ الله كما يعبده أيوب.
فخف إليه يغويه فوجده يجول فى حقوق الثراء ولكنه (1) لا يُبطره الغنى ولم يغويه المال ، (2) فهو لاهج بذكر الله ، (3) عاطف على عبيده وخدمه ، (4) يُطعم الجائع – يكسو العارى ، (5) يفك الأسير ، (6) ويبسط وجهه لطالب العطاء ، (7) يرد الظالم ، (8)يُعلم الجاهل – ينشر العلم والمعرفة بين الناس.
فحاول أن يقترب من قلبه أو يوسوس إليه وراء أُذنه وأن يُزين له الدنيا ومجاليها – وأن يزهده فى العبادة وما فيها ، ولكنه وجده من عباد الله المخلصين الذين ليس له عليهم سلطان ، فكره ما رأى – وحز به ما لقى من أيوب ، ثم رجع إلى الله. وقال: يارب عبدك أيوب الذى يعبدك ويقدسك ويهتف قلبه بذكرك – ويلهج لسانه بتسبيحك ما يعبدك تطوعاً من نفسه ، ولا نافلة من عنده إنما يعبدك ثمناً لما منحته من مال وبنين – وما أسبغته عليه من ثروة وعقار وطمعاً فى أن تبقى له ماله وتحفظ له دنياه: (ألوف من الغنم والإبل ومئات من البقر وعديد من الفدادين ، والعبيد وبنون وبنات ، وأرض عريضة وحقول خصبة…).
قال الله تعالى: إن أيوب عبد مؤمن من خالص الإيمان – لا يعبدنى إلا لما يراه من حق العبادة – ولكن ، ليكون أيوب قبساً وهاجاً فى الإيمان ، ومثلاً عالياً فى الصبر واليقين: قد أبحتك ماله وعقاره فأجمع لهما جنودك وأعوانك وشيعتك وحزبك وافعلوا بهما ما تريدون ثم انظروا إلى ما تنتهون.
فانطلقت الشياطين وفعلت أفاعيلها حتى آتت على الغنم والإبل والعبيد – والأخضر واليابس وأصبح بعدها أيوب فارغ اليدين صفر الراحتين.
ثم جآء إبليس لأيوب رجلاً (شيخ فانى) حكيماً مجرباً وقال له: إن النار قد آتت على ثروتك من قواعدها – وقد هلك الزرع الضرع وذهب المال والمدخر – وظن بما ألقاه من خبر فاجع ونبأ مروع – أنه سيزحزح من إيمانه أو يُفسد من قلبه ولكن أيوب كان أقوى إيماناً قال أيوب: عارية لله استردها – ووديعة كانت عندى فأخذها – نعمنا بها دهراً فالحمدلله على ما أنعم – وسلبنا إياها اليوم – فله الحمد مُعطياً وسالباً – راضياً وساخطاً- نافعاً وضاراً هو مالك الملك يؤتى الملك من يشآء وينزعُ الملك ممن يشآء ويعز من يشآء ويذل من يشآء ثم خر لله ساجداً وترك إبليس خزيان ينظر!.
ولكن إبليس رجع إلى الله وقال: يارب إن أيوب وإن كان لم يقابل النعمة إلا بالحمد والمصيبة إلا بالصبر ، فليس ذلك إلا اعتداداً بمن يعتز بهم من أولاد وأنه يطمع أن يشتد بهم ظهرُه – فيُرد إليه ما ذهب من ماله ، وإن سلطتنى على أولاده أفعل بهم ما يكرهُ ، فأنا موقن أن أيوب سيصير أشد ما يكون كفراً وجحوداً – فلا أشد من فتنة الولد.
قال الله: لقد سلطتك على ولده ولكنك سوف لا تُنقص ذرة من إيمانه أو تذهب بقطرة من صبره وعزمه.
دعا إبليس شيعته وحزبه وذهبوا إلى حيث يقيم ولدُ أيوب فى قصر مشيد فزلزل قصرهم حتى تصدع بنيانه ووقعت حيطانه وأصيبوا جميعهم وفنوا عن آخرهم (7 أولاد و7بنات).
ثم ذهب إبليس إلى أيوب متمثلاً فى رجل ينعاهم وقال له: لو رأيت أولادك اليوم قتلى لعلمت أن الله لم يكافئك بعبادتك..
فاستعبر وبكى ولكنه قال: الله أعطى – والله أخذ ، فله الحمد مُعطياً وسالباً – ساخطاً وراضياً – نافعاً وضاراً ثم خر لله ساجداً وترك إبليس يكاد يتميز من الغيظ …
ثم رجع إبليس إلى الله يقول: يارب لقد ذهب المال عن أيوب وفنى الولد ولكنه لا يزال فى عافية من بدنه وصحة من جسمه وإنه ليعبُدك أملاً فى أن يعود المال ويُرد الولد – ولكن سلطنى على جسمه ورخص لى فى أن أنال من عافيته.
فأراد الله أن يجعل من أيوب عبداً مؤمناً صابراً شاكراً تكون قصته عبرة للصابرين وسلوى للمرضى والمجروحين وليكون أيوب على الدهر المعلم الأول للصبر – والمثل العالى فى الإيمان – فقال لإبليس: لقد سلطتك على جسده ولكن حذار أن تقترب من رُوحه ولسانه وعقله وقلبه فإن فيها سر إيمانه ومظهر دينه وعرفانه.
فذهب إبليس فى كيده ، ونفخ فى أيوب – فاستحال سقيماً مريضاً ، ولكنه إزداد إيماناً ، وكلما ألح عليه الداء إزداد شكره… أما إبليس فقد أعياه أمر أيوب – فجمع أعوانه مرة أخرى وشكا لهم ما امتنع عليه من أيوب – فقالوا: أين مكرُك وحيلتُك ، فقال أحدهم: لقد أخرجت آدم أبا البشر من الجنة – فمن أين أتيته؟؟ قال: أتيته من قبل امرأته.
وانطلق إبليس إلى امرأته ، وهى فى بعض شأنها مع أيوب – وتمثل لها رجلاً وقال: أين زوجك؟ قالت: هو هذا ضعيفاً ومشرفاً على الموت ، فلما سمع قولها طمع فى إغوائها فأخذ يذكرها بما كان لزوجها فى صدر شبابه وأثار لديها كوامن الأحزان ثم أخذ يدركها الضجر وذهبت إلى أيوب ، وقالـت: حتى متى يعذبك ربك؟ أين المال؟ أين العيال؟ أين الصديق؟ أين الرفيق؟ أين شبابك الذاهب وعزك القديم؟
قال: لقد سول لك الشيطانُ أمراً – وامرأته هذه امرأة مؤمنة صالحة اسمها (رحمة) من أحفاد يوسف عليه السلام ، وقد رافقت هذه المرأة حياة نعمته وصحته ، وزمن بؤسه وبلائه ، فكانت فى الحالين مع زوجها شاكرة وصابرة – ثم استطاع الشيطان أن يوسوس لها.
وما كان أحد يخدمه إلا زوجته الوفية عليها السلام – وأخذت زوجته تُعينه كانت هى تطعمه وتشربه وتغسله وتنفق عليه من مالها حتى فنى مالها جميعاً – أخذت زوجته تعمل بالأجرة – فكانت تخدم الناس لكى تُطعم زوجها. نبى مرسل مبتلى بهذه الصورة ، واستمر أيوب فى هذا البلاء 18 سنة وهو صابر ما يشتكى لأحد حتى لزوجته سنين طويلة على هذا الحال وهذا الفقر وهذا المرض فقالت له زوجته: (لو دعوت الله أنت نبى مرسل إن يفرج عنا) ، ما كان يدعو بالتفريج ولكن كان يحمدالله فقال لها: (كم لبثنا فى الرخاء؟ (كم سنة عشناها فى النعيم) قالت: (ثمانين سنة فى النعيم). قال: (إنى أستحى من الله أن أدعو – ما مكثت فى بلائى المدة التى مكثت فى رخائى).
كما عشت فى الرخاء ثمانين سنة أصبر على البلاء ثمانين سنة ، فعندها يئست فقالت له: (إلى متى هذا البلاء؟) غضب أيوب وأقسم بالله أن يضربها مائة سوط .. كيف تعترضين على قضاء الله.
وفى يوم آتت له بطعام فأستغرب من أين الطعام ولم تخبره. فباعت نصف شعرها (الضفيرة) لكى تأكل هى وزوجها ، وبعد أيام نفذ الطعام فذهبت وحلقت باقى شعرها (الضفيرة الثانية) فتعجب من أين لك الطعام – فقال لها: (أشتغلت عند أحد؟) قالت: لا ، فقال لها: (من أين هذا الطعام) فسكتت فألح وألح فكشفت عن شعرها فإذا هى حليقة الشعر. لما وصل به الأمر إلى هذا الحال قال قوله ليس فيها دعاء صريح يقول الله عز وجل فى سورة الأنبياء الآية (83):
(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
أصابنى البلاء وأنت أرحم الراحمين – ما قال أرزقنى – ما قال أشفنى أنت أعلم بحالى منى ما أحتاج أشتكى ما أحتاج أن أدعو.
وقد فسره الله بقوله فى سورة (ص) الآية (41):
(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ).
بنصب: أشد التعب. وعذاب: أشد الألم.
أى وأذكر أيوب عبدنا فى شكره وصبره وقد أبتليناه بالعافية والمال والولد – فشكر وابتليناه بالمرض وذهاب المال والأهل والولد فصبر.
ويقول الله سبحانه وتعالى فى سورة الأنبياء الآية (84):
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).
ومثلهم معهم: أى ضاعف له ما أخذه منه بالإبتلاء بعد الصبر.
رحمة من عندنا: أى رحمناه رحمة خاصة ، وجعلنا قصته ذكرى وموعظة.
وبين فى سورة (ص) الكيفية التى كشف بها ضره فيقول فى الآية (42):
(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ).
لما ضرب الأرض برجله – انفجرت عين باردة خرجت من الأرض – قال له الله أشرب منها واغتسل منها ويقول العلماء (فلما أغتسل ذهب المرض من خارجه ولما شرب ذهب المرض من داخله).
فالله سبحانه وتعالى رجع له صحته كما كان ، جآءت زوجته ما عرفته فى لحظات شُفى – رأت رجل فقالت له: (هل رأيت المبتلى نبى الله؟) – والله ما رأيت رجلاً أشبه منك به إذ هو صحيح .. فقال: ما عرفتى؟ قالت: من أنت؟ قال: أنا أيوب.
فى لحظات أعاد الله له نعمة الأهل يقول ابن عباس:
(إن الله لم يكرمه هو فقط وإنما أكرم زوجته على هذا الصبر العظيم رد اللهُ عليها شبابها وولدت له 26 ولد وبنت ويقال 26 من الذكور غير البنات).
ويقول الله تعالى: (وءاتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين).
رجعنا زوجته شباب ورجعنا له أولاده وأرجع الله له الغنى (كل هذا فوراً) يروى الإمام البخارى وأحمد وغيرهم عن النبى – صلى الله عليه وسلم: (بينما أيوب يغتسل إذ خر عليه رجل جراد (طآئفة من الجراد) كميات هائلة تسبح فى الفضاء – الله أرسل عليه كميات هائلة من الجراد فإذا هى جراد من ذهب – فجعل أيوب يحشو فى ثيابه (يشيل الجراد ويضعه فى ثيابه) فقال الربُ عز وجل: (يا أيوبُ ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ فقال أيوب: بلى يارب ولكن لا غنى لى عن بركتك (أجمعها من أجل البركة منك).
لماذا أقسم أيوب أن يضرب زوجته؟؟
يقول سيد طنطاوى: أن أيوب أرسل امرأته فى حاجة له فأبطأت عليه..
عبدالوهاب النجار: فقد رُوى أن أيوب عليه السلام قد حلف ليضربن امرأته مائة سوط لخطأ وقعت فيه عندما قالت: إلى متى هذا البلاء..؟ فقال أيوب: إن شفانى الله لأضربنك مائة سوط – فلما شفاه الله ، عز عليه أن يضربها وقد زال ما به من غضب وأتم الله عليه النعمة ، والعفو نوع من أنواع الشكر ولاسيما إذا كان هذا العفو فى محله – فجعل الله له من هذا الحرج مخرجاً ، فأمره أن يأخذ حزمة من سعف النخل بها مائة سعفة فيضربها بها إبراراً بقسمه. حيث يقول الله تعالى فى سورة (ص) الآية (44):
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
الضغث: وهو الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان.
وقد تكلم العلماء عن هذه الرخصة أهى خاصة بأيوب؟ أما عامة للناس؟
فقال بعض العلماء: إذا حلف الشخص أن يضرب فلاناً مائة جلدة فيكفيه مثل هذا الضرب لأن شرع من قبلنا شرع لنا.
وقال آخرون: هذه الرخصة خاصة بأيوب – عليه السلام.
ويقول الله تعالى فى سورة (ص) الآية (44):
(إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
أى: إنا وجدنا عبدنا أيوب صابراً على ما أصبناه من بلاء ونعم العبد.
هو: إنه كثير الرجوع إلينا فى كل أحواله.
لقد أُعطى أيوب عليه السلام فشكر – وابتلى فصبر ، فكان مثلاً لخيار الشاكرين والصابرين.
ويبتلى الناس بقدر إيمانهم فيكون البلاء تطهيراً لهم وتمحيصاً لقلوبهم وقد ثبت فى الصحيحين (البخارى ومسلم) أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل).
وفى حديث آخر: (يبتلى الرجل على قدر دينه ، فإن كان فى دينه صلابة زيد فى بلائه).
وقد كان أيوب آية فى الصبر ، وبه يضرب المثل فى ذلك.
وقد قيل فى كتاب قصص الأنبياء للدكتور محمد بكر إسماعيل:
وهذه القصة وصفت فى سورة الأنبياء بأنها ذكرى للعابدين ، ووصفت فى سورة (ص) بأنها ذكرى لأولى الألباب ، لبيان أن العابدين هم أولو الألباب ، لأنهم عرفوا الله فعبدوه واستمروا فى عبادته وطاعته مخلصين له الدين. وزادت سورة (ص) على ما فى سورة الأنبياء أمراً آخر له تعلق بالقصىة وفيه بيان ليسر الدين الذى أرتضاه الله لعباده وفطرهم عليه.
وقد عاش أيوب عليه السلام (93) سنة ورزقه الله المال والبنين وكان من ضمن أولاده واحد يسمى (بشراً) الذى يقول بعض المؤرخين أنه (ذو الكفل).
(والحمد لله رب العالمين)