دور اليهود في غزوة الخندق

بسم الله الرحمن الرحيم

       الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.

أما بعد،،،،

غزوة الخندق (الأحزاب):

          من الحوادث العظام والأمور الهامة التى وقعت في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (غزوة الخندق) في السنة الخامسة من الهجرة في شهر شوال – وقد جآء ذكر هذه الغزوة في القرآن الكريم في سورة الأحزاب ، لذلك فإن بعض المؤرخين يسميها (غزوة الأحزاب).

          لقد أهتم المؤرخون بهذه الغزوة لأن أثرها كبير في تاريخ المسلمين ، ولها مقدمات ونتائج:

أولاً:  بينت لنا صفحة من تاريخ اليهود وتكشف عن أسلوبهم الدنئ في إثارة الأحقاد حتى ولو أدى الأمر إلى التجسس والإغراء بالمال.

ثانياً: تكشف هذه الغزوة عن قوة الإسلام وكيف أن أصحاب العقيدة يصبرون على البلاع والجوع.

ثالثاً: تكشف لنا عن شخصية الرسول – صلى الله عليه وسلم – في قيادته الحكيمة وفي صموده أمام طواغيت الشر وأولياء الشيطان.

بداية المعركة:

          كانت بداية هذه المعركة (1) لؤم اليهود وخبثهم ، لماذا؟  لأنهم سماسرة حرب – وتجار أسلحة – ثم هم يعملون على إشعال الحروب في كل مكان ليربحوا حتى ولو كان من

وراء ذلك دمار العالم كله.

كيف كانت العلاقة بين يهود المدينة وبين النبى – صلى الله عليه وسلم – في أول الأمر؟

الإجابة:  كانت العلاقة بين اليهود والنبى – صلى الله عليه وسلم – تتسم بالود وعلاقة الجيرة القائمة على التعاون والألفة – لماذا هو الود؟.

          كانوا يريدون أن يطووه تحت جناحهم ، حتى لا يكون له رأي إلا بعد مشاورتهم والأخذ برأيهم – لماذا؟  الغرض من ذلك أن يدعموا مركزهم في المدينة – (2) ثم يكون لهم الهيمنة على الجزيرة العربية.

          ولما لم يفعل النبى هذا – ومن هنا غاظهم عدم إستجابة النبى – صلى الله عليه وسلم – وأحس اليهود بخيبة أملهم وفشلهم في تخطيطهم فلجأوا إلى نوع آخر من الكيد للدين الجديد – فقاموا بحملة قوية في التشكيك ونشر الإشاعات ضد الدين الجديد.

مثال1:

          لما قرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سورة البقرة الآية (245):

(مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

          قرضاً حسناً:   إحتساباً به عن طيبة نفس.

          يقبضُ ويبسُط:  يضيق على بعض ويوسعُ على آخرين.

قالت اليهود:

إن رب محمد افتقر ، فهو يسأل عباده أن يقرضوه وقال بعضهم لسيدنا أبي بكر – رضي الله عنه:  ما بنا إلى الله من حاجة لكنه هو الذى يحتاج إلينا – فهو فقير ونحن أغنياء ، ولن نقرضه أبداً.

فغضب أبوبكر – رضى الله عنه – من هذا الكلام وضرب اليهودي ، ونزل قول الله تعالى في سورة آل عمران الآية (181):

(لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ).

ثم إن حملة التشكيك لم تتوقف من جانب اليهود.

كانوا يذهبون إلى النبى – صلى الله عليه وسلم – (1) ويسألونه عن أمور غيبيةكقيام الساعة كيف ومتى؟  ، (2) وعن وحدانية الله وصفاته ، (3) وعن الروح ، (4)وعن ذى القرنين ، إلى غير ذلك من الأسئلة الحرجة ليوهموا (هذا هو الهدف) الناس أنهم على علم ودراية وقدرة ، وأن دينهم الحق وأن دين محمداً ليس على الحق.

فلما فشلوا في الأسئلة وعجزوا حيث كان رد السماء يفحمهم ووحي الله يعجزهم – وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يقابل السيئة بالسيئة ، لكنه يقابل السيئة بالحسنى – صلى الله عليه وسلم – وكفاه فخراً ما قاله عنه رب الأرض والسمآء (وإنك لعلى خُلق عظيم).

مؤامرة اليهود ضد محمد – صلى الله عليه وسلم:

          إن الشر له أساتذة ولم تعرف الإنسانية في تاريخها الطويل مثل اليهود أساتذة في:  (1) الإجرام ، (2) والتخطيط له وإشاعته ، (3) ثم هم أهل تجسس وخيانة.

أمثلة:  فلقد حدث أنه بعد غزوة بدر خرج أبوسفيان في 200 راكب من قريش ليغزو محمداً – صلى الله عليه وسلم – في مدينته – فلما شارف المدينة خرج من الليل حتى أتى (سلام بن مشكم) سيد بنى النضير فأستأذن أبوسفيان على سلام فأدخله إلى بيته وسقاه ثم أعلمه ببواطن الأمور في المدينة ودله على الأسرار كلها.

ثانياً:  ولقد كان يهود بني قينقاع يواجهون النبى – صلى الله عليه وسلم – بالتحدى ويقولون له بعد النصر الذى تحقق للمسلمين في غزوة بدر:

          (يامحمد إنا لسنا كقومك الذين لقيتهم ولا علم لهم بالحرب فأصبت منهم ما أصبت ، وإنا والله لئن عدا ربتنا لتعلمن أنا نحن الناس).

مثال3:   كما أن (كعب بن الأشرف) ومعه أبو رافع اليهودي توجها إلى أهل مكة بعد غزوة بدر وأخذ ينشدان الأشعار في قتلى بدر من قريش وبعد أن أظهرا المحبة لقريش أخذا يقولان الشعر في تجريح نسآء المسلمين ثم رجعا إلى المدينة.

مثال4:  كما أن يهود بني قينقاع عملوا حيلة في امرأة مسلمة تسبب في كشف سوآتها.

مثال5:  (فدية القتيلين اللذان قتلهما المسلم خطأ) ، أما بنو النضير فقد خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتوجه إليهم ليبين لهم أنه يجب عليهم مراعاة العهد والوفاء به وينهاهم عن الخيانة ، وما أن جلس النبى – صلى الله عليه وسلم – بجوار دار أحدهم حتى تأمروا على قتله – وقد علا سطح الدار (عمرو بن جحاش) وبين يديه صخرة.

          وهذه نبذة قليلة من مؤامرات اليهود وخسة طبعهم وعدم إنقيادهم للحق – ولقد حفل التاريخ وهو أصدق شاهد – بأعمالهم الخسيسة وتآمرهم المستمر …

دور اليهود في غزوة الخندق

          خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة ، وكان على رأسهم (حُيي بن أخطب النضري) (وسلام بن أبي الحقيق النضري) ومنها إلى عطفان يجمعوا العرب ويحزبوا القبائل ليقوموا مع بعضهم قومة رجل واحد على المدينة ويدمروها ويقتلوا المسلمين ويسبوا نسآءهم ويسلبوا أموالهم – وهي خطة خبيثة جآءت في وقت غير ملاءم.

          ولكن (أبا سفيان) أراد أن يستوضح من اليهود سر تحركهم – وما هو الدافع لهم ليتعاونوا مع العرب الذين يعبدون الأصنام – وجه إلأيهم سؤال:

          (يامعشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه؟).

          أقنعت قريش نفسها بأنه ستأخذ الفتوى من أهل الأختصاص.

          قال اليهود:  (بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه).

          إن اليهود لم يراعوا تعاليم التوراة التى تنفرهم من عبدة الأوثان ، والقرآن الكريم ذكر هذا الحدث لما له من أهمية حيث يكشف عن الطوية الخبيثة والنفوس اللئيمة فيقول الله تعالى في سورة النسآء الآية (51 – 52):

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا)(52).

          ولقد فرحت قريش بهذه الفتوى التى دعمت الثقة في نفسها.

          ثم أخذ وفد اليهود يتجول في الجزيرة العربية فذهبوا إلى (غطفان) وقد أعزى اليهود قبيلة غطفان بأن لهم نصف ثمر خيبر فوافق (عُينية بن حصن الفزاري) على المشاركة في الحرب – ومروا على بنى مرة وفزارة وأشجعبني سليمبني ثعلبةوبنو أسد وكل من له ثأر عند المسلمين – ولقد خرجت قريش في أربعة آلاف مقاتل – وكان معهم ثلاثمائة فرس – 1500 بعير – حتى بلغ قوام الجيش 10.000 مقاتل مسلحين أفضل تسليح متخذين أقوى عدة في نيتهمأنهم سوف يستأصلون شأفة المسلمين بين عشية وضحاياها.

موقف المدينة

          جمع النبى – صلى الله عليه وسلم – اصحابه واستشارهم فوقف سلمان الفارسي وأشار على الرسول – صلى الله عليه وسلم – بحفر خندق في الشمال الشرقي أما بقية الجهات فهى مشبكة البنيان تحميها بعض الجبال.

          وقال سلمان:  (إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا) طول الخندق 40 ذراع وأقام الرسول – صلى الله عليه وسلم – على كل جزء مجموعة أوكل إليهم الحفر وأمرهم بتعريض الخندق – وتعميقه ليصعب على الحصان الأصيل الذى يركبه فارس مدرب أن يقتحمه.

          ومن المعلوم أن الآلات الحديثة لم تكن قد عرفت في هذا الزمان ، والأرض صخرية لذلك عانى المسلمون معاناة كبيرة وتعبوا أشد التعب علاوة على أن المسلمين كانوا يعيشون في فاقة ومغبة وكانت الأيام الثلاثة تمر ولا يأكلون ، طعامهم وشرابهم الماء فقط مع قسوة البرد.

لما قبل الرسول – صلى الله عليه وسلم – هذه المشورة (حفر الخندق)؟

          لأن فيها الخير ثم هى تحقق الآتي:

(1)تحفظ الأمة الناشئة وتدفع عنها سطوة هذا الهجوم العام.

(2)إن حفر الخندق دليل لا يقبل الشك أن محمداً مع صحبه لا رغبة لهم في القتال لأنه يؤدي إلى الخراب والدمار – لأنهم يعملون من أجل السلام.

          وكان سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – يحمل التراب بيده الشريفة كما كان يحفر الخندق بيده لذلك كان الله فى عونهم ونصيرهم ومؤيدهم.

          وقد وقعت في غزوة الخندق آيام عظام فذكرها لتكون دليلاً أمام أعيننا على فضل الله وكرمه وتأييده للمؤمنين الصادقين وصدق الله العظيم عندما قال في سورة غافر الآية(51 – 52):

(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(52).

الآية:  وعد من الله تعالى لرسوله بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

 

أدلة النصر في حفر الخندق

          لقد أطلع الله نبيه على بعض الأسرار الكونية والأمور الغيبية ليبشر أتباعه الذين (1) صدقوا برسالته ، (2) وصبروا ابتغاء مرضاته – لهذا فإن (الطبري) يروى عن عمرو بن عوف يقول:  (كنت أنا وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان – والنعمان بن مقرن المرني وستة من الأنصار في 40 ذراعاً – فحفرنا تحت فأخرج الله عز وجل من بطن الخندق صخرة بيضاء فشقت علينا وكسرت حديدنا – فذهب سلمان إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها وبرقت منها برقة أضاء ما بين لابنيها – (بين جبلى المدينة) لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم – فكبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تكبيرة فتح وكبر المسلمون ثم ضربها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضربة ثانية ، وحدث مثل الأولى تماماً ، ثم ضربها ثالثة – وحدث ما حدث في الأولى تماماً ، ثم أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يد سلمان فرقى – فقال سلمان:  بأبي أنت وأمي يارسول الله – لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط).

          فالتفت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى القوم فقال لهم:  (هل رأيتم ما يقول سلمان؟).  قالوا:  نعم – فضربت ضربتى الأول فبرق الذى رأيتم أضاءت لي منها قصور الخيرة ومدائن كسرى – فأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها – ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذى رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم فأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ، ثم ضربت ضربتى الثالثة فبرق منها لي قصور صنعاء كأنها فأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها فأبشرنا (يبلغهم النصر) فأستبشر المسلمون وقالوا:  الحمدلله موعد صدق.

          المسلمون استبشروا وفرحوا ولكن هناك الطابور الخامس (المنافقون) جلسوا إلى المسلمين يقولون لهم:  (ألا تعجبون لمحمد نحن في هذا الحصار وفي هذا التعب والعناء ويحدثكم بما لا يملك ويمنيكم المستحيل) ، يخبركم أنه يرى من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى والروم وصنعاء وأنتم حفاة عراة جياع يحيط بكم الخوف من كل جانب.

          ومن المعلوم أن المنافقين أخبث طوية من اليهود وأفسد عقيدة والمثل يقول:  (اللهم أكفني شر أصدقائي ، أما أعدائي فأنا كفيل بهم).

          والمنافقون قال الله عنهم فى سورة البقرة الآية (14):

(وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ).

          وأيضاً قال الحق سبحانه وتعالى ، سجل موقف المنافقين في قوله فى سورة الأحزاب الآية (12 ، 13):

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا)(13).

آية أخرى:

          حدث جابر بن عبدالله قال:   إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجآء النبى – صلى الله عليه وسلم – فقالوا:  ثم قام وبطنه معصوب بحجر ، لأننا لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً فأخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – فضرب فعاد كثيباً أهيل (سارت الكدية رملاً سائلاً) ، رواه البخاري – يقول ابن اسحاق عند هذه الرواية:

          (إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – دعا بإناء من ماء فتنفل فيه ثم دعا بما شآء الله أن يدعو به ، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية).

بركة الطعـــــام:

          بعد البشريات العظيمة التى أجرها الله على يدى حبيبه محمد – صلى الله عليه وسلم حدث أمر آخر ، البرد شديد وقارس ولا طعام حتى الماء يعثرون عليه بشق الأنفس ، فهل ياترى يتركهم الله في هذه الحال فيكون برد وتعب وجوع ، أم أن رحمة الله تكون منهم قريبة؟  لأنه سبحانه وتعالى يتولى الصالحين.

          تعالوا نقرأ ما رواه البخاري عن جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – قال:

          (لما حفر الخندق رأيت بالنبى – صلى الله عليه وسلم – خمصاً شديداً ، فأنكفأت إلى امرأتي فقلت هل عند شئ؟  فإني رأيت برسول الله – صلى الله عليه وسلم – خمصاً شديداً فأخرجت إلى جراباً فيه صاع من شعير – معزة فذبحتها وطحنت الشعير – ثم وليت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت أي زوجته:  الطعام قليل – يقول جابر:  فجئته – صلى الله عليه وسلم – فساررته – فتعال أنت ونفر معك ، فصاح النبى – صلى الله عليه وسلم – فقال:  يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع لنا سُوراً (ضيافة) هلموا مسرعين).

          فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لجابر لا تنزلن برمتكم ولا يخبزن عجينكم حتى أجئ فجئت وجآء رسول الله – يقدم الناس حتى جئت امرأتي فأخرجت لنا عجيناً فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثم قال ادع خابزة فلتخبز معي – ولا تُنزلوها – وهم ألف فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبز كما هو.

مثال2:  كذلك بشير بن سعد له أبنة هي أخت النعمان بن بشير أن أمها (عمرة بنت رواحة) فتقول:  فأعطتني حفنة من ثمر في ثوبي ثم قالت:  أذهبي إلى أبيك وخالك (عبدالله بن رواحة) فأنطلقت بها فمررت برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال:  تعالي يا بنية ما هذا الذى معك؟  فقلت:  (يارسول الله هذا ثمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد – وخالي عبدالله بن رواحة.  قال: هاتيه ، قالت:  فصببته في كفى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما ملأتهما – ثم أمر بثوب فبسط له ثم دحا بالتمر عليه ، ثم قال لإنسان عنده أصرخ في أهل الخندق أن هلموا إلى الغذاء فأجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد وإنه ليسقط من أطراف الثوب).

 

          وصدق الله العظيم وصدق رسولنا الكريم في سورة الطلاق الآية (2 ، 3):

(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)(3).

          وقال الصاوي:  من فوض إليه أمره كفاه ما أهمه.

الوضع داخل المدينة:

(1)كان على المدينة عبدالله بن أُم مكتوم يؤذن ويقيم الصلاة ويصلي بمن حضر.

(2)فى داخل المدينة كانت بني قريظة يسكنون شرقي المدينة ، وكان بينهم وبين الرسول – صلى الله عليه وسلم – (1) عهد ، (2) وعقد أمان ، (3) ومعاهدة ، لا يخونوا ولا يغدروا بالمسلمين ، لذلك لم يجعل الخندق يصل إليهم.

          فقد جآء عدو الله حُيي بن أخطب وهو من بني النضير ، وكان الرسول قد أجلاهم عن المدينة – فتحايل حتى دخل وأتى (كعب بن أسد) وهو زعيم بني قريظة – وهو الذى كتب العهد والعقد مع رسول الله ، كعب بن أسد عندما أحس بحيي بن أخطب داخل حصنه وينادى عليه – ويحك افتح لي إنك امرؤ مشئوم.

          فيقول كعب:  (لن أفتح لك لأنني عاهدت محمداً ولم أرى منه إلا وفاءً وصدقاً).  

          وبعد حديث طويل فتح كعب الباب ودخل حُيي وهو يقول:

          (ويحك ياكعب جئتك بعز الدهر – هذه قريش وسادتها وغطفان وغيرهم عاهدوني على إلا يرجعوا حتى تستأصلوا محمداً ومن معه).

          ومازال حُيي بكعب حتى وافق على نقض العهد.

         

هذا الموقف خطير ينذر بالشر يصوره القرآن الكريم في سورة الأحزاب الآية    (10 ، 11):

(إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (11) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا)(11).

بمعنى:

          حين جآءتكم الأحزاب من فوق الوادى يعني قبل المشرق جآءت أسد وعطفان – ومن أسفل الوادي قبل المغرب جآءت قريش وكنانة وأوباش العرب – والغرض أن المشركين جاؤوهم من جهة المشرق والمغرب ، وأحاطوا بالمسلمين إحاطة السوار بالمعصم.

          وأعانهم يهود بني قريظة فنقضوا العهد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وانضموا إلى المشركين ، فاشتد الخوف – (وإذ زاغت الأبصار) فلم تبق تنظر إلا إلى القوات الغازية من شدة الخوف – وقد زالت القلوب عن أماكنها من الصدور حتى كادت تبلغ الحناجر – حتى كأن أحدهم قد وصل قلبه إلى حنجرته من شدة ما يلاقي من الهول.

          فلولا أن الحلقوم ضاقت عنها لخرجت كما ذكره قتادة أحرجه الطبري.

          قال الحسن البصري:  (وتظنون بالله الظنُون) ، (1) ظن المنافقون أن المسلمين يُستأصلون – (2) وظن المؤمنون أنهم ينتصرون ، كما أخبر القرطبي في تفسيره فالمؤمنون ظنوا خيراً – والمنافقون ظنوا شراً.

          وكان حال المؤمنين كأنهم حركوا تحريكا عنيفاً من شدة ما دهاهم ، حتى لكأن الأرض تتزلزل بهم وتضطرب تحت أقدامهم.

          ولذلك تصرف الرسول – صلى الله عليه وسلم – بسرعة فبعث بوفد يتفاوض مع اليهود ويتعرف منهم أسباب الخيانة – وكان على رأس الوفد (سعد بن عباده) سيد الخزرج

(سعد بن معاذ) سيد الأوس ومعهما عبدالله بن رواحه.

          وقد أوصاهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنه بعد المفاوضة إن تمسك اليهود برأيهم فلا يعلنوا ذلك على المسلمين ، لماذا؟  حتى لا يضعفوا من روحهم المعنوية ، وإن كان اليهود مازالوا على العهد فليعلنوا ذلك على الناس ، لماذا؟  لتقوى الروح المعنوية ، ويطمئن كل واحد على نسآئه وأولاده وماله.

          تحرك الوفد إلى اليهود (بني قريظة) فوجدوهم على أخبث صفة وأخس خلق (الغدر) وقالوا:  لا عهد بيننا وبين محمد.

          وحاول سعد بن معاذ أن يثنيهم عن موقفهم وخاصة أنه من خلفائهم في الجاهلية – ولكنهم تمردوا عليه وشتموا سعداً وسبوه ، لكنه قابلهم برفق وتلطف وقال:  (إنكم قد علمتم الذى بيننا وبينكم يابني قريظة وأنا خائف عليكم مثل يوم النفير أو أمر منه).

          إن سعد بن معاذ شعر بأنه في هذا الموقف جرحت كرامته لذلك سكت – ومن هنا لم يملك سعد إلا أن يرفع يديه إلى السمآء ويقول:

          (اللهم لا تُمتني حتى تقُر عيني من بني قريظة).

          ورجع الوفد – ثم قالوا كلمة لرسول الله (عضل والقارة) أي أن اليهود غدروا بنا كما غدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع.

          القائد لا ييأس فعنده أمل ممتد وثقة في الله لا حد لها.  ألتف الرسول – صلى الله عليه وسلم – بثوبه ونام – وسرعان ما نهض ورفع رأسه إلى السمآء وقال لأصحابه:  (ابشروا بفتح الله ونصره وتقدم إليه أحد الصحابة (سعيد الخدري)) ، قال:  (قلنا يوم الخندق يارسول الله هل من شئ نقوله قد بلغت القلوب الحناجر؟

          قال:  (نعم اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا).

          ماذا فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – في هذا الوضع (ما تخطيط الرسول – صلى الله عليه وسلم؟).

أولاً:  أقام الرسول – صلى الله عليه وسلم – الحراسة الدائمة على طول الخندق ، وقد علم أصحابه كلمة السر بحيث يتعارفون بها في ظلمات الليل وهذه الكلمة هي (هم لا ينصرون).

ثانياً:  طائفة أخرى من المسلمين تحرس المدينة خوفاً من أن يقوم يهود بني قريظة بفتح ثغرة للمشركين – فأرسل بجند وكانت كلمة سرهم (الله أكبر).

ثالثاً:  كان اليهود قدموا وعوداً وعهوداً إلى غطفان أن لهم نصف ثمر خيبر – إذاً هؤلاء قوم مأجورون بالمال – ولذلك أرسل إلى النبى – صلى الله عليه وسلم – إلى عينيه بن حصن والحارث بن عوف أن يرجعا بجيشهما ولهم 3/1 ثمار المدينة – وقد فرح قادة غطفان بهذا العرض لأنهم لن يخوضوا حرباً – ثم أرسل إلى سعد بن معاذ (سيد الأوس) وسعد بن عباده (سيد الخزرج) بإعتبارهما قيادات شعبية لهما مكانة سامية في نفوس الجماهير واستشارهما في ذلك قبل أن يوقع على العقد مع غطفان فقال السعدان:  (1)يارسول الله إن كان ما تصنعه أمر تحبه وافقنا عليه – (2) وإن كان شئ أمرك الله به فنسمع له ونطيع ، أم هو شئ تصنعه لنا؟

          فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم:  بل هو شئ أصنعه لكم لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، فقال سعد بن معاذ:  يارسول الله كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا من ثمر المدينة إلا بيعاً – أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟  والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم فسُر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لذلك وقال له:  أنت وذاك – وقال لعينيه والحارث انصرفا فليس لكم عندنا إلا السيف.

الموقف الصعب:

          المشركون عندما رأوا الخندق انبهروا بهذا الحدث غير المسبوق لذلك قال أحدهم:  (يامحمد من أعلمك بهذا؟).

          وقال آخر:  (والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تعرفها).

          وبدأت الشائعات تتردد على ألسنة المنافقين.

قال أحدهم:  (كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط).  الحمام

          ثم انسحبوا من المعركة – وبدءوا يتفننون في انتحال المعاذير – فيزعمون أن بيوتهم غير حصينة فيخافون عليها اللصوص – لكن الحق سبحانه يبين لنبيه ومصطفاه أن هذه حجج واهية تكشف عن طويه نفوسهم الخبيثةإيمانهم ضعيف في قلوبهم مرض زاعمين أن وعد الرسول لهم خداع ، وهم يشيعون الخوف والضعف في جيش المؤمنين.

          يقول الله تعالى في سورة الأحزاب الآية (13):

(يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا).

          قالت جماعة من المنافقين (أوس بن قيطى وأُبي بن سلول).

          (يا أهل يثرب) دعوة إلى ردة يريدون بها شحن المشاعر باللغة القديمة فهم يريدون طمس المشاعر الجديدة – لأن يثرب عاشت في أذهان الناس أيام الكفر والشرك ، ولم يقولوا (يا سكان المدينة) لأن هذا الاسم ولد في ظل الإسلام – وهذا يدل على صعوبة الموقف الذى عاش فيه المسلمون لأننا نستطيع أن نقول بلغة العصر: (1) تصدع في الجبهة الداخلية ، (2) ثم عدو متربص يبث عيونه ليتعرف على أماكن الضعف – وما أن ظهرت الدعوة من المنافقين إلا وقد أستعد المشركون فخوض المعركة.

المعركـــــة:

          المشركون يمرون على الخندق حتى وجدوا مكاناً ضيقاً فيه فاقتحموا هذا المكان بخيلهم وتحرك فريق من المسلمين بقيادة علي بن أبي طالب ليسدوا الثغرة في وجه هؤلاء (1) عمرو بن عبدود الذى كان يختال ويجول بفرسه وينادى هل من مبارز؟  قال علي أدعوك إلى البراز ، قال عمرو:  يابن آخي والله ما أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك – فقال له على:  (أنا والله أحبُ أن أقتلك).

          فحمى عمرو بن عبدود ونزل عن فرسه فعقره وصار نحو على فتنازلا وتجاولا وثار التراب بينهما فما انجلى النقع حتى رءوا علي على صدر عمرو يقطع رأسه ، وما هي إلا لحظات عيبة ، المسلمون يشفقون على علي لأنه فتى لم يبلغ الثلاثين – عمرو هذا رجل مخضرم له حنكة وأسلوبه في الكر والفر ، (2) وقد ولى أصحاب عمرو بن عبدود الهرب من الثغرة التى جآءوا منها.

ثانياً: كتيبة خالد بن الوليد:

          هذه الكتيبة تريد أن تنفذ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولكن (أُسيد بن الحُضير) تصدى لهذه الكتيبة في 200 من أشجع المسلمين فصدوا كتيبة خالد وردوهم على أعقابهم خاسرين.

          وبسبب هذا الكر والفر والمناوشات شُغل المسلمون عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

          فلما انتصف الليل ، وهدأ الموقف – جمع الرسول – صلى الله عليه وسلم – الصحابة وأمر بلال أن يقيم لكل صلاة وصلى هو وأصحابه ما فاتهم من الصلوات ، ولم يصلوا المسلمين أثناء المعركة لماذا؟.

          لأن الأمر بالصلاة أثناء المعركة لم يكن قد نزل من عند الله.

موقف رائد غير مسبوق:

          لذلك شآءت مشيئة العلي الأعلى أن يلعب رجل دوراً عظيماً على مسرح الأحداث – هذا الرجل هو (نُعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي).

          فقد تأخر إسلامه وجآء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو مُعسكر في أرض الخندق ، وقال:  (يارسول الله إنى أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي).

          تفحص فيه الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعرف صدق كلامه – ثم قال:  (إنما أنت فينا رجل واحد فلو خرجت فخذلت عنا كان أحب إلينا من بقائك ، فأخرج فإن الحرب خُدعة).

ماذا قال نعيم لنفسه؟

        قال ولم لا فأنا ثقة عند كل الأطراف (1) يهود بني قريظة أصدقائي ، (2) قريش بيني وبين قيادتهم ود قديم ، (3) وأما غطفان فهم أهلي وعشيرتي. (الخطوة الأولى).

          لم يضيع نُعيم الوقت وذهب على الفور إلى بني قريظة وجلس إلى كبرائهم وقال لهم:  (تعرفون ودي لكم وما بيني وبينكم).  قالوا:  صدقت ، لست عندنا بمتهم.   قال نُعيم: (قريش وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونسآؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره – أما قريش وغطفان فأموالهم وأبناؤهم ونسآؤهم في بلد آخر – فإن رأوا غنيمة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم – وخلوا بينكم وبين محمد ولا طاقة لكم به إن خلا بكم – (2) فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم وضماناً على أن يقاتلوا محمداً حتى يقضوا عليه.  فقالوا:  (نعم الرأى يانُعيم لقد أشرت بالصواب).

الخطوة الثانية:

          خرج نُعيم إلى قريش وجلس مع أبي سفيان ورجال من قريش وقال لهم:  (تعرفون ودي لكم ، وفراقي محمداً – وقد بلغت أمراً رأيت حقاً على أن أبلغكموه نصحاً لكم).

          قال:  (إن معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين (قريش وغطفان) رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقى منهم.

          فأرسل محمد إليهم أن نعم – (النصيحة) فإن بعثت إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.

الخطوة الثالثة لنُعيم:

          ذهب إلى غطفان ، فقال لهم أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني.  قالوا:  صدقت. ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم – وقد نجح في بذر بذور الشك في نفوس الأحزاب والحلفاء من اليهود).

صٌنع الله:  إن مع العسر يسرا ..  إن الفرج مع الصبر – وكلما أشتد ظلام الليل كان ذلك إيذاناً بقرب الفجر – لذلك وفق الله نُعيم للقيام بأداء دور رائد غير مسبوق.

          وقد جآءت هذه الحيلة في وقت (1) أشتد فيه البرد ، (2) وأصاب الأحزاب التعب ، (3) وأوشكت أزوادهم أن تنفد ، ولابد أن يقوموا بأداء دور عاجل وهم لا يستطيعون إجتياز الخندق إلا إذا تحرك اليهود من الداخل.

ماذا فعل أبي سفيان؟

          أرسل عكرمة بن أبي جهل الخيل في نفر من قريش وغطفان وقالوا لليهود:  (إنا لسنا بدار مقام قد هلك الصراع والخف فاغدوا معنا للقتال حتى نقاتل محمداً مما بيننا وبينه).

ماذا كان رد اليهود؟

(1)إن غداً السبت وهو يوم لا نعمل فيه.

(2)ثم لم نقاتل معكم حتى تُعطونا رهُنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا ، فإنا نخشى إن خسرتم الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركوننا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك.

      ولما رجع عكرمة إلى قريش وغطفان بما قال اليهود قالوا:  صدق نُعيم فيما حدثنا به.

         

ولكن قريش وحلفاءها أرسلوا إلى اليهود مرة أُخرى:

          (إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فإخرجوا فقاتلوا).

          فقالت يهود بني قريظة:  صدق نُعيم – فأعادوا الرد على قريش:  (والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهُناً).  فرفضت قريش ودب الخلاف بينهم وهذا أول شئ في سلم نجاح المسلمين.

          إن الله تعالى لن يضيع أولياؤه ولن يعجزه أعداؤه.

          وكان الرسول يُلح في الدعاء يرجو من الله أن يعمل بالنصر – ومن دعائه:

          (اللهم منزل الكتاب – سريع الحساب – اللهم اهزم الأحزاب – اللهم اهزمهم وزلزلهم).  رواه البخاري.  وقد أستجاب الله لنبيه وللمسلمين الذين كانوا يلحون بالدعاء: (اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا).   رواه الإمام أحمد.

          ولذلك أرسل الله جنده ، (وما يعلم جنود ربك إلا هو).

وأول الجند:    الريح:   هي جند من جنود الله – وقد أرسلها الله شديدة الهبوب عاتية الإعصار على الأحزاب:  (1) فقلعت خيامهم ، (2) وأطفأت نارهم ، (3) وحملت الأحجار وبدأت ولها أصوات تسمع من قريب.

ثانياً:   نزلت الملائكة بأمر الله:  (1) فخلعت الأوتاد ، (2) وأطفأت النيران ، (3) وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض – (4) وقذفت في قلوب المشركين الرعب – (5)وكبرت الملائكة في جوانب معسكرهم ، فقال طليحة بن خويلد:

          (أما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء).

موقف الله تعالى من المنافقين:

          ثم إن الحق سبحانه يوجه نظر حبيبه ومصطفاه إلى أن المنافقين في المدينة مازالوا

يثيرون الشائعات الكاذبة في سورة الأحزاب الآية (60 ، 61):

(لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا)(61).

          لئن لم ينته المنافقون:    عن نفاقهم وهو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.

          والذين في قلوبهم مرض:   مرض حب الفجور وشهوة الزنا.

          والمرجفون في المدينة:   الذين يأتون بالأخبار الكاذبة لتحريك النفوس وزعزعتها

كقولهم العدو على مقربة من المدينة أو السرية الفلانية قتل أفرادها وما إلى ذلك.

          لنغرينك بهم:    لنسلطنك عليهم ولنحرشنك بهم.

          لنسلطنك عليهم يامحمد – ثم يخرجون من المدينة فلا يعودون إلى مجاورتك فيها إلا زمناً قليلاً – مدة تهيئهم للخروج – وعد الله نبيه أن يخرج أعداءه من المدينة وينفيهم على يده – وهم بذلك ملعونين مبعدين عن رحمته تعالى – أينما وجدوا أخذوا على وجه الغلبة والقهر ثم قتلوا لكفرهم بالله تقتيلاً.

لماذا تأمر بقتلهم يارب؟

(1)لأنهم هربوا من ميدان المعركة ، (2) وكانوا معوقين للمؤمنين.

          وصلت الأخبار إلى مسامع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأراد أن يستوثق ويتعرف وجه الحقيقة (إن الأحزاب يريدون أن يرحلوا بعد ما نكل الله بهم).

          فأرسل برجل (حذيفة بن اليمان) ليتعرف الخبر وما ألم بالقوم من أمور.

          وقد كانت الليلة التى بعث فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حذيفة أشد ظلمة وأشد ريحاً تحمل أصواتاً مثل الصواعق.

          وكان حذيفة يرتعش لأن كساءه قصير ما يجاوز ركبتيه – وعندما عرف مهمته زاد فزعه لكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – دعا له قائلاً:

          (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته).

          يقول حذيفة:  (فوالله ما خلق الله تعالى فزعاً في جوفي بعد ذلك).

          ويخرج حذيفة إلى معسكر الأحزاب وهو يقول:  (ياصريخ المكر وبين ويا المضطرين اكشف همي وغمي وكربى فأنت ترى حالي وحال أصحابي).

          وهو في طريقه لم يجد البرد الذى يجده الناس ولا من تلك الريح الشديدة شيئاً بل عافاه الله منه ببركة إجابته للنبى – صلى الله عليه وسلم ، وهذه من معجزات رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

          ويصف لنا حذيفة عندما دخل في معسكر الأحزاب:

          وجد الريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل ثم نظر فإذا رجل أدهم ضخم يتلمس بيده النار ، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك.

وقد قال أبوسفيان:   (يامعشر قريش لينظر امرؤ من جليسه؟).

          قال حذيفة:  فضربت بيدى على يد الذى عن يميني فأخذت بيده فقلت من أنت؟  قال:  معاوية بن أبي سفيان – ثم ضربت بيدي على يد الذى عن شمالي فقلت:  من أنت؟  قال: عمرو بن العاص.

          ثم قال أبوسفيان:  (1) لقد هلك القراع (الخيل والخف) ، (2) وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذى نكره ، (3) ولقينا من شدة الريح فارتحلوا فإني مرتحل.

          ثم خرجت نحو النبى – صلى الله عليه وسلم – وقد راجعه البرد وكان يرتعد ويرتعش ، فألبسني رسول الله – من فضل عباءة كانت عليه يصلى فيها فلم أزل نائماً حتى أصبحت فقال لي:  (قم يانومان)  وهذا الحديث ورد بروايات متعددة.

          وقال الله تعالى في سورة الأحزاب الآية (25):

(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا).

          ذهب المشركون إلى بلادهم يالخيبة والفشل وقد أحاط الذل والخزي باليهود – والفضيحة والعار بالمنافقين.

          وقد رحلت قريش وكنانة وأسد وغطفان ، ردهم الله تعالى بغيظهم أى بكربهم وغمهم حيث لم يظفروا بالرسول والمؤمنين ولم يحققوا شيئاً مما أملوا تحقيقه.

          وكفى الله المؤمنين القتال حيث سلط على الأحزاب الريح والملائكة فانهزموا وفروا عائدين إلى ديارهم لم ينالوا خيراً.

          بعد حصار المدينة دام ما يقرب من شهرين ونجت المدينة من خطر الإحتلال.

 

 

((  والحمدلله رب العالمين  ))

 

 

 

اترك تعليقاً