الوقتُ هو الحياة

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل الخلق أجمعين، الآمين المأمون الذى بعثه الله رحمة للعالمين.

أما بعد:

      فمن الخطب الجامعة الحكيمة التى كان النبى – صلى الله عليه وسلم – يأمر أتباعه بالعمل بما فيها قوله: (أيها الناسُ إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ، وإن المؤمنين بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه ، وأجل باق لا يدرى ما الله قاض فيه (1) فليأخذ العبد من دنياه لآخرته ، (2) ومن الشبيبة قبل الكبر ، (3) ومن الحياة قبل الممات ، فوالذى نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار سوى الجنة أو النار).

وإننا اليوم نستقبل شهراً جديداً ، ونودع شهراً قد انقضى بخيره وشره ، ندعو الله تعالى أن يجعل هذا الشهر خيراً من سلفه وأن يجعل خلفه خيراً منه.

والعاقلُ من الناس هو الذى يكون له وقفات فى مراحل حياته (1) يُحاسب فيها نفسه ، (2) ويراجع أقواله وأفعاله ، فإن كانت خيراً حمد الله على ذلك ، وسأل الله عز وجل المزيد منها ، وإن كانت شراً أقلع عنها ، وتاب إلى خالقه توبة صادقة نصوحاً.

والعاقلُ من الناس هو الذى يُوقن بأن حياته هى رأس ماله – وأن كل دقيقة تمر من عمره وهى محسوبة عليه ، ومقربة له من القبر.

ويُعرف أن كل عمل يعمله سواء كان صغيراً أم كبيراً سوف يتحمل وحده نتائجه ، وسوف يراه مسطوراً أمامه فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها – كما قال سبحانه فى سورة الإسراء الآية (13،14):

(وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(.) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى

بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)

كل إنسان مرهون بعمله مجزى به ، وعمله ملازم له لزوم القلادة للعُنق لا ينفك عنه أبداً – ويظهر له يوم القيامة كتاب أعماله مفتوحاً فيه حسناته وسيئاته ويقال له: اقرأ كتاب عملك كفى أن تكون اليوم شهيداً بما عملت لا تحتاج إلى شاهد أو حسيب.

وقال بعض العلماء:  هذا كتاب ، لسانُك قلمه ، وريقك مداده (حبره) ، وأعضاؤك قرطاسه ، أنت كنت المُملى على حفظتك – ما زيد منه ولا نُقص منه، ومتى أنكرت منه شيئاً يكون فيه الشاهد منك عليك –(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ). الآية (21) سورة فصلت 

فيجب على العاقل أن يكون على أشد الخوف منه (الله).

والوقت إما عمار وإما دماروالوقت يا أحبائى هو (أغلى) جوهرة يمتلكها الإنسان ، بل هو أثمن من الجوهرة لأنه إما تسعد به دوما (دائماً) وإما تشقى به دوماً.

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التى كانت قبل الموت تبنيها.  فإن بناها بخير طاب ساكنُها ، وإن بناها بشر خاب بانيها.

والبناء يكون (1) بالإقبال على الله والبعد عن الغفلة.

والله لو نطق أحدُ من أهل القبول لقال: (أكثر ما عندكم يا أهل الدنيا هى الغفلة وأكثر ما عندنا هى الحسرة).

قال تعالى فى سورة مريم الآية (39):

(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي

غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

بمعـنى:

أنذر يا محمد الخلائق وخوفهم يوم القيامة يوم يتحسر المسئ إذ لم يُحسن ، والمقصر إذ لم يزد من الخير – (قُضى الأمر) قُضى أمرُ الله فى الناس ، فريق فى الجنة وفريق فى السعير.  وهم اليوم فى غفلة سادرون (تهون) وهم لا يصدقون بالبعث والنشور.

فما أغفلنا عما يراد بنا ..  وما أغفلنا عن ملاقاة ربنا.

فلن تستطيع إعادة الوقت الذى ضاع منك وسوف تُسأل عنه يوم القيامة – (يوم الحساب)(يوم الحسرة) ففى الحديث الشريف (يوم الندامة):

لن تزول قدما عن يوم القيامة حتى يسأل عن أربع:

(عن شبابه فيما أبلاه – وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به).

أحبـائى:

(1)          إن الرحلة شاقة ، (2) وزاد التقوى قليل ، (3) واللقاء حاتم ، فماذا قدمنا وماذا أخرنا.

إنا لنفرح بالأيام نقطعها ، وكل يوم مضى يقرب من الأجل– فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران فى العمل – وأرحل من الدنيا بزاد من التقوى فعمرك أيام وهى قلائل.

وما أقبح التفريط فى زمن الصبا فكيف به والشيبُ للرأس شاغل.

العاقل من الناس:

هو الذى يستغل كل وقت من أوقات حياته فيما ينفع ويفيد من الأقوال والأعمال ، فى الخير لا فى الشر ، فى التعمير لافى التخريب ، فى البناء لا فى الهدم – فى الإصلاح لا فى الإفساد ، فى التجمع لا فى التفريق فى الطاعات لا فى المعاصى.

فمن أقوال الحكماء:(ما من يوم ينشق فجره إلا ينادى يا ابن آدم ، أنا يوم جديد ، على عملك شهيد ، فاغتنمنى فإنى لا أعود إلى يوم القيامة).

ومن أقوالهم أيضاً:(من أمضى يومه فى غير حق قضاه ، أو فرض أداه أو خير أسسه ، أو حمد حصله أو علم اقتبسه ، فقد عق يومه وظلمه).

الغافل من الناس:

(1)                      هو الذى يسترسل فى اللهو، (2) واللعب،

(3) وفى العبث، (4)والتقصير ولا يستيقظ إلا عند فوات

الأوان.  كما أخبرنا الله عز وجل فى كتابه العظيم فى

سورة المؤمنون الآية (99 ، 100) حيث قال: (حَتَّى

إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(.)لَعَلِّي

أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا

وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

بمعـنى:حتى إذا حضر الموتُ أحدهم وعاين أهواله وشدائده – قال تحسراً عل ما فرط منه: رب ردنى إلى الدنيا ، لكى أعمل صالحاً فيما ضيعت من عمرى– كلا: كلمةُ ردع وزجر أى لا رجوع إلى الدنيا– فإن طلبه للرجعة كلام لا فائدة فيه لا جدوى منه وهو ذاهب أدراج الرياح ، ثم إن أمامهم حاجز يمنعهم عن الرجوع إلى الدنيا (وهو عالم البرزخ) الذى يحول بينهم وبين الرجعة يلبثون فيه إلى يوم القيامة.

يتمنى الإنسان يوم القيامة حسنة واحدة.

يبحث عنها فى سجل حياته لينجو من عذاب إليم (من عذاب النار).؟

قال تعالى فى سورة آل عمران الآية (185):

(فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ).

إذاً يوم القيامة نبحث عن حسنة فلا نجدها – ولو قال فى ثانية من أيامه فى الدنيا (سبحان الله وبحمده) تكتب له عشر حسنات ، يا لها من كلمة !!  فما بالك لو قالها 100 مرة كسب ألف حسنة فى أقل من خمس دقائق.

جربى أختى أقل من خمس دقائق – فهيا اغتنم العمر واغتنم الوقت.

ولقد قال النبى – صلى الله عليه وسلم:

(من قال لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم غرست له نخلة فى الجنة) فى جنة الرحمن ، فى جنة عرضها السموات والأرض فما بالك لو ذكرتها 100 مرة يبقى بستان من النخيل – يا سبحان الله !!

 

كم من الأوقات نُدمرُها ولا نعمرُها ؟؟

تعالى معى نُعمرُ هذه الأوقات الضائعة – فمن أحبه الله استعمله وذكره بذكره ، وأنت فى الطريق إلى مكان العمل أذكر الله –لقى الفضيلُ بن عياض:  رجل فقال له: ياهذا كم عمرك قال الرجل: ستون سنة – قال الفُضيلُ: (إتقى الله أنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى الله توشكُ أن تصل إليه).  فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.

تفسير إنا لله وإنا إليه راجعون:  سورة البقرة الآية (156)

(1)          استرجعوا واقروا بأنهم عبيد لله يفعل بهم ما يشآء.

(2)          لله سبحانه وتعالى أن يصيبنا بما شاء ، لاننا ملكه وعبيده – ونحن راجعون إليه بالموت ، فلا جزع إذا ولكن تسليم لحكمه ورضا بقضائه وقدره.

قال الفُضيل:  الحيلة يسيره – تُحسن فيما بقى من عمرك – يغفر لك ما مضى من عمرك.

(1)          يقولون عن حماد بن مسلمه ، لو قيل له إنك تموت غداً ، ما قدر أن يزيد فى عمله شئ (ربنا يجعلنا منهم).

(2)          قال ابن مسعود – رضى الله عنه:  (ما ندمتُ على شئ ندمى على يوم ربت فيه شمسه نقص فيه عمرى ولم يزد فيه عملى).

فما بالكم إذا كان اليوم أقل من الأمس – من لم يتفقد الزيادة فهو فى نقصان ، ومن كان فى نُقصان فالموت خير له.

(3)          قال سلمان الفارسى: ما هو سلمان ؟ (سلمان من أهل البيت) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة أعجبتنى حتى أضحكتنى (أ) مؤمن فى الدنيا والموت يطلبه ، (ب) وغافل ليس بمغفول عنه ، (ج) وضاحك ملئ فيه وهو لا يدرى أساخطُُُ ربُ العالمين أم راضى عنه).

إن الإسلام دين يعطى الوقت حقه من التقدير ، ومن الحرص على إستغلال كل لحظة منه فيما ينفع ويفيد مما أحله الله تعالى من أقوال وأفعال وإن شريعة الإسلام لتؤيد الحكمة التى تقول:  (الوقتُ كالسيف إن لم تقطعُهُ قطعك).

إن من علامات الغفلة، ومن أمارات تغلب الشيطان بوساوسه على الإنسان أن يعيش ذاهلاً عما يجب عليه نحو خالقه ونحو ذاته ونحو غيره من حقوق وأن يظل لاهياً فى قضاء أوقات حياته (1) فى اللغو من القول ، (2) وفى السئ من العمل ، (3) وفى القبيح من السلوك.

إن شريعة الإسلام قد أرشدت الناس إلى ما يعينهم على استغلال أوقات حياتهم (1) فى الخير لا فى الشر ، (2) فى الطاعات لا فى المعاصى ، (3) وفيما ينفع ويفيد وليس فيما يضر ويبيد.

وأرشدتهم إلى (1) وجوب الإعراض عن اللغو ، وهو كل ما لا فائدة فيه من القول أو الفعل.  وقد مدحت الشريعة الإسلامية هؤلاء المرضين مدحاً عظيماً ، وجعلت ترك اللغو بين ركنين من أركان الإسلام.

قال تعالى فى سورة المؤمنون الآية (1):(4):

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ

خَاشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)

وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)(4).

بمعــنى:  فاز وسعد المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة – لقد تحقق ظفرهم ونجاحهم بسبب الإيمان والعمل الصالح ، ثم عدد تعالى مناقبهم:

(1)          يصلون وهم فى صلاتهم خائفون متذللون لجلال الله وعظمته لاستيلاء الهيبة على قلوبهم.

(2)          وهم عن الكذب والشتم والهزل بعيدين.

(3)          وهم كذلك يؤدون زكاة أموالهم للفقراء والمساكين ، طيبة بها نفوسهم طلباً لرضى الله.

وقد أرشدت الشريعة الإسلامية الناس إلى أن من الوسائل التى تُعينهم على استغلال أوقات حياتهم فى الخير:

(1)          أن يداوموا على (أ) القول الطيب ، (ب) وعلى العمل الصالح ، فإن العمل الصالح القليل الدائم خير من العمل الكثير المنقطع وفى الحديث الصحيح: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:

(أيُها الناسُ خذوا من الأعمال ما تُطيقُون ، وإن أحب العمل إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه).

(2)          أرشدتهم الشريعة إلى التبكير فى الأوقات.  فإن تأخير الأعمال عن أوقاتها المحددة لها ، ليس من صفات العقلاء ، وإنما هو من صفات السفهاء ، ولقد كان من دعاء النبى – صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأُمتى فى بكورها).

وعندما رأى – صلى الله عليه وسلم – رجلاً قد نام إلى أن طلعت الشمس دون أن يصلى صلاة الصبح قال:

(ذاك إنسان قد بال الشيطان فى أُذنه).

وأخـيراً:أحبائى:

      أُذكر نفسى وإياكم أن خير الناس من طال عمره وحسن عمله ولن تزول قدم بنى آدم حتى يُسأل عن أربع أشياء:

(1)          ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه.  (2) وعلمه ماذا عمل به. (3) وعمره فيما أبلاه.  (4) وشبابه فيما أفناه.

فهيا بالإقبال والإغتنام العمل الصالح قبل أن نسمع قول ربنا عز وجل( كلا إنهم إليها لا يرجعون).

إن عمر الإنسان قصير ، وإن حياته أثمن (أغلى) من أن تضيع فيما لا ينفع وإن الواجبات أكثر من الأوقات ، وإن الزمن لا يقف محايداً ، فهو إما صديق ودود – أو عدو لدود –فعلينا أن نعمر أوقات حياتنا بالباقيات الصالحات من الأقوال والأفعال ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

 

( والحمدلله رب العالمين )

 

 

 

اترك تعليقاً