تفسير سورة الكهف ( 2 )

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبى الأُمى سيدنا محمد المختار ، وعلى آله الأطهار ، وأصحابه الأخيار.

أما بعد:

      فلما ذكر الله تعالى قصة أهل الكهف وهى تُمثل صور التضحية والبطولة فى سبيل العقيدة والإيمان (لقد فرغنا منها فى الدرس الأول من تفسير سورة الكهف) أعقبها الله عز وجل بذكر قصة أصحاب الجنتين ، وهى نموذج آخر للعقيدة متمثلة فى قصة الأخوين من بنى إسرائيل: المؤمن المعتز بإيمانه ، والكافر وهو صاحب الجنتين ، وما فيها من عبر وعظات.

سبب النزول:قال سليمان الفارسى – رضى الله عنه: جآءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم: (عيينه بن حصن والأقرع بن حابس) فقالوا:  يارسول الله ، إنك لو جلست فى صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم (يعنون سلمان ، صهيب ، بلال ، ياسر بن عمار وأبا ذر وفقراء المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها).  جلسنا إليك حادثناك وأخذنا عنك ، ولشده حرصه ، صلى الله عليه وسلم – على إسلام هؤلاء الكفار فحدث نفسه بما شآء (أخذ يفكر فى الأمر).

فنزل قوله تعالى:

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). سورة الكهف الآية (28).

       وكذلك نزلت الآية (52) من سورة الأنعام:

َلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ).

بمعـنى:  أحبس نفسك مع الضعفاء الفقراء من المسلمين الذين يدعون ربهم بالصباح والمساء ، يبتغون بدعائهم وجه الله تعالى ، ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوى الغنى والشرف بل أعطيهم من العناية والإهتمام الشئ الكثير.

       والنبى الكريم – رضوان الله عليه كان حريصاً على إيمان الرؤساء طمعاً فى إيمان أتباعهم ولم يكن مريداً لزينة الدنيا ، يا محمد لا تطع كلام أصحاب الشرف والجاه فقلوبهم غافلة عن ذكر الله ، وقد شغلوا عن الدين وعبادة ربهم بالدنيا ، قال المفسرون:  نزلت فى عُينيه بن حصن وأصحابه أتى النبى – صلى الله عليه وسلم – وعنده جماعة من الفقراء منهم (سلمان الفارسى) وعليه شملة صوف قد عرق فيها ، فقال عُينية: أما يؤذيك ريح هؤلاء؟  ونحن سادة مُضر وأشرافها إن أسلمنا يسلم الناس ، فنحهم عنك حتى نتبعك أو أجعل لنا مجلساً ولهم مجلس ، فهم رسول الله أن يجيبهم إلى ما طلبوا ، فلما نزلت الآية:

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).

       خرج رسول الله – يلتمس هؤلاء الفقراء فلما رآهم قال: (الحمدلله الذى جعل فى أُمتى من أمرنى ربى أن أُصبر نفسى معهم):

َقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا).

       ظاهر الآية أمر وحقيقته وعيد وإنذار وتهديد ، قل يا محمد لهؤلاء الغافلين لقد ظهر الحق وبان ، فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فأكفروا ، إن كفرتم فقد أُعد لكم النار ، وإن آمنتم فلكم الجنة.

       الله سبحانه وتعالى قد أعد للكافرين ناراً حامية شديدة أحاط بهم سورها كإحاطة السوار بالمعصم ، وإن استغاثوا من شدة العطش فطلبوا الماء أُغيثوا بمآء شديد الحرارة كالنحاس المذاب أو كعكر الزيت المحمى يشوى وجوههم إذا قُرب منهم من شدة حره.

       مصداقاً لقوله – صلى الله عليه وسلم:

       (ماء كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه). (أخرجه أحمد والترمذى).

       بئس (ذم) ذلك الشراب الذى يغُاثون به وساءت جهنم فى منزلها وطعامها وشرابها كله سوء وعذاب هذا وعيد من أختار الكفر على الإيمان.

       وأما وعد من آمن وعمل صالحاً وقد تضمنته الآيات (30 –31):

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا(30)أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا(31).

       لما ذكر الله تعالى حال الأشقياء أعقبه بذكر حال السعداء ، على طريقة القرآن فى الترغيب والترهيب ، إنا لا نضيع ثواب من أحسن عمله وأخلص فيه بل نزيده وننميه.  لهم جنات إقامة (وجنات عدن) سُرة الجنة أى وسطها وسائر الجنات من حولها ، وتجرى من تحت غُرفهم ومنازلهم أنهار الجنة ، ويحلون فى الجنة بأساور الذهب.

قال المفسرون:  ليس أحد من أهل الجنة إلا وفى يده أساور: سوار من ذهب ، سوار من فضة وسوار من لؤلؤ لأن الله تعالى قال:  (وحلوا أساور من فضة) ، وقال: (ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير).

       قال أبو هريرة – رضى الله عنه – سمعت خليلى – صلى الله عليه وسلم يقول:  (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) أخرجه مسلم.

       ثم يلبسون ألوان من الحرير ، برقيق الحرير وهو السندس ، وبغليظة وهو الإستبرق ، حرمتكم فى الدنيا من الحرير والذهب إمتحاناً واليوم أكرمكم رضواناً – (يلبسون خضراً من سندس) ، وثبت أن اللون الأبيض يشتت البصر ، واللون الأسود قاتم، وأنسب لون للعيون الخضرة ، متكئين فى الجنة على السرر الذهبية المزينة بالثياب والستور ، نعم ذلك جزاء المتقين ، وحسنت الجنة فى حليها وثيابها وفرشها وأسرتها وطعامها وشرابها وحورها ورضوان الله فيها ، وحسنت منزلاً مقيلاً لهم (جعلنا الله من أهلها).

       لما ذكر الله تعالى فى القرآن النوعين ، النوع الأول:  الذى استغنى بالفانى على الإيمان الباقي. النوع الثانى:  الذى يتكبر على خلق الله ولا يعجبه مثل بلال وسلمان وصهيب ، الرب واحد والأب واحد (آدم) فعلام التكبر والتجبر.

       فأراد الله عز وجل أن يأتى لنا بمثل حى وتطبيق عملى لمعرفة القيمة الحقيقية والقيمة الزائفة كما قال سبحانه:

(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) سورة الكهف الآية (32).

       اضرب يا محمد لهؤلاء الكفار الذين طلبوا منك أن تطرد الفقراء هذا المثل.

قال المفسرون:  هما أخوان من بنى إسرائيل ، أحدهما مؤمن ، والآخر كافر ، ورثا مالاً عن أبيهما فاشترى الكافر بماله حديقتين ، وأنفق المؤمن ماله فى مرضاة الله حتى نفد ماله فعيره الكافر بفقره، فأهلك الله مال الكافر.

       جعل الله سبحانه للكافر بساتين من شجر العنب ، مثمرين وأحطناهما بسياج من شجر النخيل ، وجعلنا وسط هذين البساتين زرعاً ويتفجر بينهما نهر ، أخرجت ثمرها فى غاية الجودة والطيب ولم تنقص منه شيئاً.

       فأصبح الجماد هو النبات أعرف وأعدل لله من صاحبه ، الجنة لم تظلم منه شئ شيئاً بل أتت به كاملاً ووافياً ، وصاحب البستان دخل جنته وهو ظالم لنفسه بالإعراض عن الله والكفر.

       مصداقاً لقوله تعالى: الآية (33 – 36):

(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا(33)وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا(34)وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا(35)وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا(36).

       أخذ الكافر بيد أخيه المؤمن ودخل الحديقة يطوف به فيها ويريه ما فيها من أشجار وثمار وأنهار وهو ظالم لنفسه بالكفر والعُجب ثم قال ما أعتقد أن تفنى هذه الحديقة أبداً ، وما أعتقد القيامة كائنة وحاصلة ، أنكر فناء جنته وأنكر البعث والنشور ولئن كان هناك بعث على سبيل الفرض فسوف يعطينى الله خيراً من هذا وأفضل ، فكما أعطانى هذا فى الدنيا فسيعطينى فى الآخرة لكرامتى عليه.

كيف كان رد أخيه المؤمن؟:  قال كما أخبر القرآن:

(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا(37)لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا(38).

(1)           المؤمن جمع مراحل خلق الإنسان من بدايته إلى نهايته ، هو الله عز وجل حيث خلق أباك آدم من تراب ، ثم خلقك أنت من نطفة (من منى) ثم جعلك رجلاً ، وهذا توبيخ من المؤمن الفقير للكافر المغرور:  الإستفهام للتقريع والتوبيخ ، لكن أنا أعترف بوجود الله فهو ربى وخالقى ، ولا أشرك مع الله غيره ، فهو المعبودُ وحده لا شريك له.

(2)           قال المؤمن الفقير للكافر الغنى قل ما شآء الله لا قوة إلا بالله ، وأصبحت سنة من أراد أن يصون النعمة فى المال والعيال والصحة والزوجة لا تفسدها عين حاسد، وإن إستطعت أن تقول حسبنا الله ونعمة الوكيل.

(3)           وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد.

(4)           وكذلك لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين.  الرسول – صلى الله عليه وسلم أخبر بأن هذه الكلمات الأربع تحفظُ النعمة من الزوال وتحفظُ الإنسان من العين والسحر.

       مصداقاً لقوله تعالى فى الآية (39 – 44):

(وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا(39)فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا(40)أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا(41)وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا(42)وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرً(43)هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا(44).

       وقال المؤمن الفقير للكافر الغنى:  إن كنت ترى أننى أفقر منك وتعتز على بكثرة مالك وأولادك ، إنى أتوقع من صنع الله تعالى وإحسانه أن يقلب ما بى وما بك من الفقر والغنى فيرزقنى جنة خيراً من جنتك لإيمانى به ، ويأخذ منك نعمته لكفرك به ويخرب بستانك عن طريق أن يرسل عليها آفة تجتاحها أو صواعق من السمآء تدمرها ، وبذلك تصبح الحديقة أرضاً ملساء لا تثبت عليها قدم ، جرداء لا نبات فيها ولا شجر أو يغور ماؤها فى الأرض فيتلف كل ما فيها من الزرع والشجر ، وينتهى الحوار هنا وتكون المفاجأة المدهشة فيتحقق رجاء المؤمن بزوال النعيم عن الكافر.

       لما أرسل الله تعالى المصيبة للكافر الغنى أرسلها ماحية ماحقة مدمرة ، لم يبقى له أى شئ لا نخيل ولا عنب ولا زرع.  وهو نادم على إشراكه بالله يتمنى أن لم يكن قد كفر النعمة ، ندم حين لا ينفع الندم

       وفجأة نرى السياق القرآنى ينتقل بنا من مشهد البهجة والإزدهار إلى مشهد البوار والدمار ، وبذلك هلكت جنته كلها وأصبح يقلب كفيه حزناً على ماله الضائع وجهده الذاهب ندماً وتحسراً ، وسقطت أعمدة الكرم التى كان (يعرشها للكرم) كما سقطت جدران مبانيها على سقوفها وهويتحسر ويتندم ويقول:  (يا ليتنى لم أشرك بربى أحداً) ولم تكن له جماعة قوية تنصره وتدفع عنه الهلاك ، وما كان بنفسه ممتنعاً عن إنتقام الله فلم تنفعه العشيرة والولد.

       ويضرب الله سبحانه للحياة الدنيا حيث أغتر بها الناس وخدعتهم فصرفتهم عن الله تعالى ربهم فلم يذكروه ولم يشكروه فاستوجبوا غضبه وعقابه.

       اضرب يا محمد للناس مثل هذه الحياة فى زوالها وفنائها وانقضائها بمآء نزل من السمآء فخرج به النبات وافياً غزيراً ، وفجأة أتاه أمر الله برياح لاحقة ، محرقة ، فأصبح يابساً متهشماً متكسراً تنسفه الرياح ذات اليمين وذات الشمال ، وهذا يدل على أن الله قادراً على الإفناء والإحياء لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السمآء. وهذا خير تمثيل لنا نحن الإنسان يكون ملء السمع والبصر ثم فى غمضة عين ينتهى ويدفن.

       مصداقاً لقوله تعالى فى الآية (45):

(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا).

       بعد أن ضرب المثل للحياة الدنيا التى غرت أبناءها فهلكوا أخبر بحقيقة أخرى ، يُعلم فيها عباده لينتفعوا بها ، هى أن المال والأولاد زينة هذه الحياة الفانية ، والكل إلى فناء وزوال ، سواء كان المال أو الأولاد ، لا يغتر بها إلا الأحمق الجهول ، فلا يجوز الإغترار بهما بحيث يصبحان هم الإنسان فى هذه الحياة فيصرفانه عن طلب سعادة الآخرة بالإيمان وصالح الأعمال ، هذا جزء الحقيقة فى هذه الآية (46):

(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).

والجزء الثانى هو أن:(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا).

والباقيات هى كل أفعال البر والعمل الصالح من (صلاة ، ذكر ، تسبيح ، جهاد ، صيام ، زكاة ، صدقة).  وأعمال الخير تبقى ثمراتها أبد الآباد فهى خير ما يؤمله الإنسان ، ويرجوه عند الله.  وفى الحديث الذى رواه الترمذى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال:  لقيت إبراهيم ليلة أسرى بى  فقال يامحمد:  أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء ، وأنها قيعان ، وأن غراسها سبحان الله ، والحمدلله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

       ثم بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى الدنيا ومآلها ذكر القيامة وأهوالها واذكر يوم زيل الجبال من أماكنها ونسيرها كما نسير السحاب فنجعلها هباة مُنبثاً.  وبعد أن تزول الجبال ترى الأرض ظاهرة للعيان ليس على الأرض من جبل ولا شجر ولا بنيان ، ثم نجمع الأولين والآخرين لموقف الحساب فلم نترك أحداً منهم وعرضوا على رب العالمين صفوف.

       الحديث:  (يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد صُفوفاً).

       ويقال للكفار على وجه التوبيخ والتقريع:  لقد رجعتم لنا لا مال معكم ولا سلطان لكم بل حُفاة عراة غُرلا:  وهو الذى لم يختتن.  وقد زعمتم أن لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عقاب.

(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49).

       وضعت صحائف أعمال البشر وعرضت عليهم (كتاب الحسنات والسيئات) وأعطى كل واحد كتابه فالمؤمن يأخذه بيمينه والكافر بشماله.  فترى المجرمين خائفين مما فيه من الجرائم والذنوب ويقولون ياحسرتنا ياهلاكنا على ما فرطنا فى حياتنا الدنيا وأن هذا الكتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحاط بها ووجدوا كل شئ مكتوباً مثبتاً فى الكتاب.  والله سبحانه وتعالى لا يعاقب إنساناً بغير جرم ، ولا ينقص من ثواب المحسن ، ولا يأخذ أحد بجُرم أحد ولا يأخذه بما لم يعمله.

موقف إبليس من أمر الله:

       أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود لآدم – سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة ، فسجد جميع الملائكة لكن إبليس الذى هو من الجن خرج عن طاعة ربه ، (إبليس هو الذى ملاء الأرض فسادً وعناداً وإلحاداً وهو الذى جعل الكفار يستهزءون بالصالحين).

       ثم جآء العتاب من الله سبحانه وتعالى لنا أفتتخذونه يا بنى آدم هو وأولاده الشياطين أوليآء من دون الله وهم لكم أعداء بئست عبادة الشيطان بدلاً من عبادة الرحمن.

       مصداقاً لقوله تعالى الآية (50):

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا).

       كان هناك فرقة من العرب ولا تزال لهم فى بعض المحافظات العربية مثل (دير الزور فى سوريا) عُباد الشيطان ، ولا يقبلوا أن يقول أحد أمامهم:  أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فيعبدونه ويخافوا منه الضرر وكانوا يظنون عنده القوة والعلم.  ولكن الذى عنده القوة والعلم هو الله.

       والله سبحانه وتعالى يخبرنا أنه ما أشهد هؤلاء الشياطين الذين عبدتموه من دونى خلق السموات والأرض ولا أشهدت بعضهم خلق بعض فهم عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً.

       ولم أكن متخذ الشياطين من الجن والإنس لأجعل منهم معيناً لى فكيف تطيعونهم من دونى؟  مصداقاً لقوله تعالى الآية (51):

(مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا).

       وصلنا الآن إلى قصة الخضر الرجل الصالح مع نبى الله موسى عليه السلام ثم قصة ذى القرنين فى درسين كاملين.

       ونحمد الرحيم الرحمن على نعمة التوفيق ونسأله المزيد من فضله وأن ينفعنا بهذا القرآن أحياءً وأمواتاً ، إن ربى سميع الدعاء.

 

( والحمدلله رب العالمين )

 

 

اترك تعليقاً