مارية القبطية

بسم الله الرحمن الرحيم

        الحمدلله وكفى ، والصلاة والسلام على النبى المصطفى.

أما بعد،،،

          ففى منزل خاص بعوالى المدينة ، كانت تقيم سرية للنبى – صلى الله عليه وسلم – لم تحظى بلقب أم المؤمنين ، ولكنها حظيت دونهن جميعاً بنعمة أمومتها لابنه إبراهيم إلى جانب شرف الصُحبة.

فمن تكون هذه السرية؟

هى من صعيد مصر فى قرية تدعى (حفن) واقعة على الضفة الشرقية للنيل ، ولدت (مارية بنت شمعون) لأب قبطى ، وأم مسيحية رومية.

أمضت فى هذه القرية حداثتها الأولى قبل أن تنتقل فى مطلع شبابها الباكر مع أختها (سيرين) إلى قصر (المقوقس ، عظيم القبط ملك الإسكندرية).

وقد سمعت هناك بما كان من ظهور نبى فى جزيرة العرب يدعو إلى دين سماوى جديد ، وكانت فى القصر حين وفد (حاطب بن أبى بلتعة) يحمل رسالة إلى المقوقس.

ودفع (المقوقس) كتابه إلى (حاطب) معتذراً بما يعلم من تمسك القبط بدينهم ، وضن بملكه أن يفارقه.

هدايا المقوقس للنبى – صلى الله عليه وسلم:

(1)     جاريتين هما مارية وسيرين ، (2) عبد مخصى – (3) والف مثقال ذهب ، (4)وعشرون ثوباً من نسيج مصر ، (5) وبغلة شهباء (دلدل) وجانب من عسل بنها وبعض العود والند والمسك.

          وشعرت الأختان بوحشة لفراق الوطن ، وأحس (حاطب) ما تجد الأختان من شجن الفراق ، فحدثهما عن النبى – صلى الله عليه وسلم – حديث مؤمن – (وفى كتاب الإصابة لابن حجر) من طريق ابن سعد أن حاطباً عرض الإسلام على مارية ورغبها فيه ، فأسلمت هى وأختها.

وتلقى النبى الكريم كتاب المقوقس ، وهدية مصر.  وأعجبته (مارية) فأكتفى بها ، ووهب أختها (سيرين) شاعره (حسان بن ثابت) فهى أم ولده عبدالرحمن.

وطار النبأ إلى دور النبى – صلى الله عليه وسلم – أن شابة مصرية حلوة ، بيضاء جعدة الشعر ، جذابة الملامح قد جآءت من أرض النيل هدية للنبى الكريم.

موقف عائشة من مارية:

(1)     تكلفت عائشة ما استطاعت من جهد لكى تعلل لنفسها بألا خطر عليها من هذه الشابة الجديدة.

(2)     راحت ترقب فى كثير من القلق ، اهتمام النبى – صلى الله عليه وسلم – بتلك المصرية ، وحزنت عندما تراه يكثر من التردد عليها ، ويمكث لديها طويلاً.

حياة مارية السعيدة:

(1)  كانت مارية سعيدة بمكانتها عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسعدت كثيراً بأن ضرب عليها الحجاب شأن أمهات المؤمنين ، (2) إن الرسول الكريم قد ملأ عليها حياتها ، حيث أنساها الأهل والوطن ، (3) وكانت مارية دائم تتذكر قصة هاجر – رضى الله عنها – (الفتاة المصرية) التى أنجبت من إبرهيم عليه السلام ، وكانت تلمح الشبه الواضح فى قصة هاجر وقصتها لقد تزوج الرسول بزوجات كثيرات بعد السيدة خديجة ولكن أرحامهن جميعاً أمسكت وهى تتمنى أن يرزقها الله بولد مثلما رزق السيدة هاجر إسماعيل (ويالها من أمنية أبعد من الوهم ، وياله من أمل أوهى من السراب).

بشــــرى:

          استقبلت (مارية) عامها الثانى فى حياة النبى – صلى الله عليه وسلم – وفجأة أحست بوادر حمل ، فكذبت إحساسها وكتمت ما بها شهراً وشهرين ، وهى فى ريب من الأمر – هنالك أفضت إلى أختها (سيرين) فأكدت لها أن ليس فى الأمر وهم وإنما هو جنين حى.  حتى جاء السيد الرسول ، فأفضت إليه – صلى الله عليه وسلم – بالسر الخطير ، فرفع إلى السمآء وجهاً مشرق يشكر لخالقه ذاك العزاء الجميل الذى من به على عبده الرسول ، وكان هذا إثر فقد إبنته الغالية (زينب) بعد أن ماتت قبلها رقية وأم كلثوم ، ومات عبدالله ، والقاسم.

          وسرعان ما سرت البشرى فى أنحاء المدينة أن المصطفى – صلى الله عليه وسلم ينتظر مولوداً له من (مارية المصرية).

غيرة نسآء النبى – صلى الله عليه وسلم:

          وقد ذكر ابن حجر فى الإصابة عن عائشة – رضى الله عنها – أنها قالت:  (ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية) وذلك أنها كانت جميلة ، فأعجب بها رسول الله ، ثم رزقها الله الولد وحرمنا منه.

          ونقلها – صلى الله عليه وسلم – إلى (العالية) بضواحى المدينة ، توفيراً لراحتها وسلامتها وعناية بصحة جنينها.

          وسهر عليها يرعاها ، وكذلك فعلت أختها (سيرين) ، وحانت ساعة الوضع ذات ليلة من شهر ذى الحجة سنة 8 هجرية.

          وجآءت أم رافع بالبشرى أكرمها كل الإكرام وذهب إلى مارية فهنأها بولدها الذى أعتقها من الرق (أم ولد وليست جارية).

          وتصدق – صلى الله عليه وسلم – على مساكين المدينة بوزن شعر الوليد فضة ، وتنافست نسآء الأنصار أيتهن ترضعه.

          وراح يرقب نموه يوماً بعد يوم ..  وفى ذات يوم حمله بين ذراعيه إلى (عائشة) فبلغ من شدة قهرها أن كادت تبكى مما تجد.

          وأدرك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الفور مدى ما تكابد ، فانصرف بولده.

الفرحة لم تتم:

          لقد مرض إبراهيم ولم يبلغ عامين من عمره ، وحزنت أُمه حزناً شديداً واستدعت أختها سيرين وظلتا ساهرتين حول فراشه تمرضانه ، وجآء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحمل صغيره من حجر أُمه وهو يجود بنفسه ، ووضعه فى حجره محزون القلب ويقول:  (إنا يا إبراهيم لا نغنى عنك من الله شيئاً) ثم بكى ، فقال له عبدالرحمن بن عوف – رضى الله عنه – وأنت يارسول الله ، فقال الرسول الكريم:  (إنها رحمة الله ثم أتبعها أخرى فقال:  إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك ياإبراهيم لمحزونون).  (متفق عليه من حديث أنس)

          ثم نظر إلى مارية فى عطف ورثاء ، وقال يواسيها: (إن إبراهيم إبنى ، وإنه مات فى الثدى ، وإن له لظئرين تكملان رضاعه فى الجنة).   أخرجه مسلم فى صحيحه.

          وبعد أن دفن النبى – صلى الله عليه وسلم – إبنه إبراهيم قد غام الأفق وانكسفت الشمس فقال قائلون:  (إنها انكسفت لموت إبراهيم) ، وبلغت الكلمة الرسول الكريم فصلى بالناس صلاة الكسوف وخطبهم قائلاً:  (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فأدعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا).

          ترى يا أخى ونبيك الكريم فى هذا الحزن ولكنه لم ينسى أنه معلم وأنه رسول من قبل الله يوضح للناس أوامر الشرع.

وأذن الرحيـل:

          عاشت مارية – رضى الله عنها – بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – خمس سنوات فى عزلة عن الناس لا تقابل غير أختها ولا تخرج إلا لكى تزور قبر الحبيب بالمسجد أو قبر ولدها بالبقيع.

          فلما ماتت سنة ست عشرة من الهجرة أخذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – يحشد الناس لجنازتها ثم صلى عليها ودفنها بالبقيع.

وصية النبى – صلى الله عليه وسلم بأهل مصر:

          وفى صحيح مسلم ، كتاب الفضائل قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:  (استوصوا بأهل مصر خيراً فإن لهم نسباً وصهراً).

          النسبة من جهة هاجر أم (إسماعيل عليه السلام) جد العرب العدنانية ، والصهر من جهة مارية القبطية أم إبراهيم بن محمد – عليه الصلاة والسلام.

          وقد فتحت مصر سنة 20 هجرية ، بعد تسع سنين من وفاة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – فكانت الوصية من وثائق الفتح:  ذكرها (عمرو بن العاص) فى مفاوضات الصلح بينه وبين مندوبى المقوقس.

          وقد وضع عنهم (أهل حفن قرية مارية) معاوية بن أبى سفيان الجزية إكراماً لإبراهيم ابن رسول الله – من مارية القبطية.

          ويقال:  (إن عبادة بن الصامت الأنصارى – رضى الله عنه) كان ممن شهد فتح مصر ، بحث عن تلك البلدة وسأل عن موضع بيت مارية بها ، فبنى بها مسجداً.

 

(  والحمدلله رب العالمين )

 

اترك تعليقاً